استلهم مشروع التحديث للواقع والوعى المصريين، فى زمنى محمد علي، ثم جمال عبدالناصر، جملة من الأفكار والآليات الإجرائية التى أوجدت حالة من الجدل الخلاق، والتراكم الكمى الذى أفضى إلى تغير نوعى بطريقة أو بأخرى فى الإسهام فى تحرير الوعى المصري، تارة عبر الاهتمام بالترجمة والبعثات العلمية خاصة إلى فرنسا فى عهد محمد علي، وإنشاء مدرسة الألسن، وإفساح الطريق أمام رفاعة الطهطاوى ورفاقه فى بدء نهضة جديدة وحقيقية آنذاك، ثم التمازجات التى تمت عقب ثورة يوليو المجيدة بين السياسى والثقافي، والإحساس العارم بأهمية القوة الناعمة المصرية التى بدأت فى التأثير الفعلى فى محيطها العربي، بل ورفده بقيم مختلفة، جعلت الوجدان العام مصريا بامتياز فى فترة الستينيات على سبيل التحديد، وربما كان لنكسة الصيف السابع والستين أثرها فى تغير المزاج العام، وغلق الأفق النهضوى لمشروع التحديث المصرى والعربى مؤقتا، ضمن أسباب أخرى لا مجال لتفصيلها الآن. غير أن الشاهد الحى يبدو فى الاحتفاء المدهش بالثقافة الوطنية التى حملت رهاناتها فى المسرح والسينما والأدب سردا وشعرا، والفنون التشكيلية والموسيقى، وبدا نصيب كل سياق من السياقات المشار إليها مختلفا بالطبع، تبعا لوعى صناعه ومبدعيه، لكن اللافت حقا أن الروح التى تعى طبقات التراكم الحضارى المصري، وجذوره المتعددة بدت حاضرة دوما، وبدا معها أيضا هذا الحضور الواعد لوعى طليعى منحاز إلى قيم الجمال والتقدم ومجابهة القبح والرجعية، لقد وضعتنا التراكمات الجمالية والرؤيوية التى خلقتها مرحلة العشرينيات من القرن الماضي، والتى تأجج فيها الشعور الوطنى عقب ثورة 1919، أمام مرحلة من النهوض الفنى تمثلها مثلا موسيقى سيد درويش، ويعبر عن تجليها السياسى تمثال نهضة مصر للفنان محمود مختار، أو يرسم طرفا من حكاياتها نص »عودة الروح« لتوفيق الحكيم والذى انتهى من كتابته فى سنة 1927، وصدر بعدها بسنوات، ثم حظيت حقبة الأربعينيات بحضور نوعى لتيارات فكرية مختلفة، كان التجلى الأبرز لها فى لجنة الطلبة والعمال فى العام 1946، وبدت مصر مسرحا خلاقا لجملة من التيارات الطليعية التى انحازت فى مجملها إلى ثورة يوليو فيما بعد. إن سؤال الثقافة الوطنية لا ينفصل إذن عن سؤال التحديث، بل إن مشروع الثقافة الوطنية يعد فى جوهره مشروعا للتحديث والنهوض يجب أن تتوخاه الدولة المصرية الآن، فى ظل عمل دءوب لا تخطئه عين صوب الانتقال إلى أفق أكثر رحابة وتقدما، ومن هنا تلوح المفارقة بين بنية سياسية مشغولة بالتحديث المستمر لمجتمعها ولواقع شعبها، وأخرى ثقافية عاجزة عن الإجابة على أسئلة اللحظة الراهنة، أو المشاركة الفاعلة فى صنعها، سواء عبر مجابهة الفكر المتطرف مواجهة فكرية ذات طابع عملى وملموس، أو غيابها عن تشكيل العقل العام فى لحظة مواتية للغاية، تستنهض فيها الدولة المصرية قدراتها وتسعى صوب تحقيق التقدم المنشود. ولاستعادة الثقافة الوطنية بوصفها مشروعا للتحديث المصرى لا بد من مراجعة نقدية شاملة لكافة الهيئات الثقافية المنوط بها تشكيل العقل والوجدان الجمعيين، ومساءلتها مساءلة موضوعية، والوقوف على ما أحرزته من خطى، تتسق وغايات إنشائها وأدوارها التى يجب أن تلعبها فى المشهد المصري، بل وفى المحيط العربى أيضا، وهذه المراجعة هى الخطوة المركزية الأولى لأى إصلاح ثقافى حقيقي، لكنه ليس كل شيء أيضا، إنه البداية التى يجب أن تتلوها مجموعة من السياسات الثقافية الفاعلة والإجرائية، التى تبدأ من وعى المؤسسة الثقافية الرسمية بخطورة اللحظة الراهنة وتحدياتها، وتعاملها مع الثقافة بوصفها حالة مجتمعية، يجب أن تصل لكافة القطاعات والطبقات فى مصرنا العزيزة، وأن تسعى لتجسير الفجوة المصطنعة بين النخبة والجماهير، عبر خطوات واضحة، فتجعل من المجلس الأعلى للثقافة عقلا حقيقيا للأمة المصرية، ومسئولا عن صوغ السياسات الثقافية وفق وعى مختلف وجديد، وليس وفق منطق الرطان النظرى الذى يخلو من المعنى والإجراء، وأن تسعى لسياسات جديدة للغاية فى النشر تتعامل مع المنتج الثقافى بوصفه عنوانا للتقدم والحرية والتراكم، وليس تلالا مهملة من الكتب، أو طبعات منقوصة الصفحات، أو مسكونة بالأخطاء اللغوية والمطبعية، وأن تنظر لمعرض القاهرة الدولى للكتاب باعتباره ليس حالة كرنفالية فحسب ولكن بوصفه تعبيرا جليا عن حضور مصرى فاعل فى الثقافة الإنسانية، وأداة من أدوات القوة الناعمة المصرية وليس عبئا عليها. إن استعادة الثقافة بوصفها معنى عاما سيفضى إلى استعادة صناعات فكرية وتقنية تختص بالمعرفة القرائية والوسائط البصرية المختلفة، خاصة وأن مصر قد قطعت أشواطا متعددة فى هذا السياق، وأن تتعامل مع قصور وبيوت الثقافة بوصفها منارات للمعرفة، وليست أمكنة ترعى فيها الأفكار الماضوية فى بعض الأقاليم. لمزيد من مقالات د. يسرى عبدالله