ما الذى يمكن أن تفعله ثقافة كرنفالية صاخبة، تحتفى بالقشرة، وتخاصم الجوهر لأمة تملك تراكما حضاريا هائلا، ومشكلات أكثر جسامة؟ هذا السؤال هو عين الحقيقة التى يراد تزييفها طيلة الوقت، بحيث يبدو الانشغال الفعلى بقيم التقدم والاستنارة ضربا من المغامرة فى ظل ظروف سياسية وثقافية معادية لروح التنوير الكبرى حين تسائل الاستبداد السياسى والديني، وتكشف الغطاء عن تحالف الفساد والرجعية، وتغول اليمين الدينى فى القطاعات المختلفة، وهيمنة نموذج متسلط يملك رؤية أحادية صوب الحياة، والعالم، والأشياء. لم تكن القوة الناعمة المصرية بحاجة إلى مؤامرة خارجية كى تتراجع، كما لم تكن بحاجة إلى كهنة جدد يخلقون مشهدا تعيسا ومهترئا، يسعى نحو تأبيد اللحظة وتثبيتها، وكأن فكرة التغيير ليست أساسا لهذا العالم المتحول، البالغ التعقد والتشابك. لكن الثقافة المصرية كانت منذ السبعينيات على موعد مع التحولات الدراماتيكية، فبعد موجة اليمين الليبرالى الذى أصاب قليلا وأخطأ كثيرا، بدأت روح قديمة تسكن الجوهر الثقافي، روح ماضوية باختصار، يحيا فى متنها أفاقون ورجعيون ومرتزقة، تنامت هذه الروح الصغيرة وأصبحت مشغولة بالماضى أكثر من انشغالها بالحاضر، معنية بالسقوف أكثر من عنايتها بفتح النوافذ، هذه الروح الصغيرة هى نفسها الصامتة الآن عن حبس كاتبين مصريين لا لشيء، إلا لأن أحدهما كتب رواية، والآخر قال رأيا فى التراث!. كان خنق نوافذ الحريات العامة وهبوب رياح جافة تحمل فى متنها قيما دخيلة على الثقافة بمثابة المهاد النظرى لتراجع القوة المصرية الناعمة. وما بين السببين تشكلت جيتوهات مختلفة، تتحالف كثيرا، وتتصارع قليلا، ولا تلتقى سوى على مصالحها الآنية الضيقة؛ ولذا غابت السياسات الثقافية الناجعة، وغاب المشروع الثقافى الحقيقي، ولو نظرنا إلى السنوات التى تلت الثورة المصرية المجيدة فى يناير 2011، لوجدنا أن المنطق الذى تعاملت به الدولة المصرية مع الثقافة كان منطق «سد الثقوب»، وهو منطق بائس، أسهم فى مزيد من التراجع للقوة الناعمة المصرية التى تعانى منذ السبعينيات من القرن المنصرم. كان يمكن للثقافة المصرية أن تستفيد من تعدد مراكز إنتاج الثقافة العربية، وتنوعها الخلاق، لكنها بدأت فى الانزواء شيئا ما، والاعتماد على ما كان أكثر من الاعتماد على ما هو قائم، وبدأنا مرحلة من ابتذال التاريخ الثقافى المصرى تحت وطأة الهجرة لبلاد النفط، واستحداث قيم ليست بنت زمانها ولا مكانها فى صياغة الوعى العام. بدأ منطق «سد الثقوب» طريقه إلى الواقع الفعلى بدءا من الاختيارات العبثية التى أعادت إلى الواجهة آخر وزراء ثقافة مبارك، ومنحت تلاميذه الأقل كفاءة منه مقعد الوزير فى كل مرة، وبات كل شيء خاضعا لمعايير تتصل بالولاء لا النزاهة، المحسوبية لا العدل، وغابت التصورات الإجرائية عن الواقع الثقافي، وتركت الثقافة الرسمية الدولة المصرية وأمتها وشعبها يواجهون عصابات الجهل والتطرف والإرهاب دون غطاء نظرى وفكري، يقدم طرحا مختلفا، معتمدا على خيال جديد. وتعمقت المأساة كل مرة باختيارات أكثر كارثية، وبدأت الثقافة نفسها تختفى من الواجهة، وتحل محلها الاحتفاليات الخادعة التى جعلتنا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا، وانعدم الأثر الثقافى فى الفضاء العام، وتراجعت صورة المثقف كثيرا، خاصة بعد جملة من التحولات المخزية التى شهدتها الحياة الثقافية المصرية، وحدث تآكل للنخبة، وجمود لبعضها، وأصبحنا أمام سياق من المغمورين الجدد، يلهثون خلف الحضور الكاذب، الذى لا يصمد أمام حركة التاريخ التى تتجه دائما صوب الأمام. لقد غابت الاستراتيجية الفاعلة لتشكيل مشروع ثقافى وطني، يصبح جزءا مركزيا فى صناعة الوجدان العام، وبلورة خطاب طليعى وتقدمى ومستنير، يقاوم مناخات الكراهية والعتامة والظلام الفكري، وتكلست أدوات صناعة العقل المصرى الذى صار مشغولا بالميتافيزيقا أكثر من أى وقت مضي. وبمرور الوقت، وتعاقب العبث، انتقلت الثقافة من منطق «سد الثقوب» إلى منطق «تسديد الخانات»، وأصبح التعامل معها يتم من منظور «أى شيء صالح لكل شيء»، فضاع المعني، واهتزت القيمة، وصرنا أمام تراجع مخيف فى صورة الثقافة نفسها، وسقوط مخزٍ للمثقف ذاته. واتساقا مع مناخ استهلاكى الطابع، قائم على التلفيق والتناقض الفادح، أصبحنا أمام ثقافة معلبة، غير قادرة على الحضور وسط الناس، فافتقرت إلى زخم الحياة اليومية، وصار المعنيون بالثقافة غائبين عنها، وتحولت الأروقة الرسمية لوزارة يجب أن تتوجه بالأساس إلى دافع الضرائب المصري، إلى ملكية خاصة لحفنة من مثقفى المؤسسة، وانفصلت الأنشطة المختلفة عن الجماهير، الذين هم بغية الفعل الثقافى ومراده فى آن. وبعد.. ربما كان للدور الفاعل الذى يلعبه بعض المثقفين من خارج المؤسسة العامل الحقيقى فى الحفاظ على ما تبقى من قوة ناعمة، خاصة مع تمدد الترهل والفساد الثقافى والإهمال والعشوائية فى جنبات المؤسسة الرسمية، وبما يعنى إعادة الاعتبار لدور المثقف العضوى المستقل، الفاعل فى واقعه، عبر انحيازه الموضوعى لقيم التقدم والإبداع. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله