هم الطليعة الذين من المفترض أن يتلمس المجتمع خطاه على هدى أفكارهم ورؤاهم، وهم الترجمة الحية للتحولات التى تطرأ على هذا المجتمع، ولقد لعب المثقف المصرى دورا كبيرا عبر مختلف العصور، وتجلى دوره التنويرى فى العصر الحديث حين كان علماء الأزهر وطلبته – النموذج الأمثل للمثقف حينئذ- يمتلكون القدرة على تحريك الجموع وتوعيتهم وتثويرهم، ومع بدايات القرن التاسع عشر استطاع محمد على أن يستغل هذه الفئة فى تحقيق مشروعه التحديثى، كما شهدت مصر وقتئذ تغيرا نوعيا فى التركيبة الفكرية والعملية للمثقف، إذ أسهمت البعثات العلمية فى تغيير الشكل التقليدى للمثقف المصرى الذى انتبه لأهمية الفكر والثقافة فى بناء المجتمعات الحديثة عندما خالط الأوروبيين ووقف على خطورة دور الثقافة وأهميتها فى تحديد ملامح وأنساق سلوكياتهم، خاصة ما يتعلق بالسياسة ونظام الحكم. لكن هذه الفترة أيضا خنقت – إلى حد بعيد – النزعة الاستقلالية لدى المثقف، إذ جعلت من هؤلاء الذين رجعوا من أوروبا يحملون علمها وثقافتها، مستوظفين، لدى الجهاز الإدارى العتيق، وما نتج عن ذلك من مميزات جعلت الكثيرين منهم يرتقون طبقيا بل وأصبحوا من كبار الملاك وأصحاب الثروات، وشيئا فشيئا أصبح جل ما يصبو إليه المتعلمون/ المثقفون/ الأفندية أن يلحقوا بركب الوظيفة الميرى، وشيئا فشيئا تحول المثقف إلى بوق للسلطة التى تمنحه عطاياها، وبمرور الوقت انسلخ أغلب المثقفين عن واقع المجتمع وسجنوا أنفسهم فى دوائر ضيقة تدور معظمها فى فلك يبتعد تماما عن حاجات ومتطلبات الجماهير. ولقد شهد المجتمع المصرى تحولا شديدا فى سلوك الغالبية المتنفذة من المثقفين، وأصبح من المعتاد أن تسقط الأقنعة من فوق وجوه كثيرة كل وفقا لما يقتضيه الحال وعلى أساس طبيعة السلطة القائمة، وفى الوقت الذى تراجع فيه المثقف المهموم بقضايا وطنه والمعنى بتطويره وفتح الأفق أمامه والسعى لبناء مستقبل يليق به، نرى أن هناك نوع جديد/ قديم من المثقفين يمكن أن نسمي الواحد منهم "مثقف الشنطة" وهو يقوم بدور يماثل دور تاجر الشنطة/ السمسار وأحيانا دور القواد. ولقد شهدت مصر تراجعا مخزيا لدور المثقف ،خاصة منذ سبعينيات القرن العشرين حيث طغت ثقافة الانفتاح الاستهلاكية التى شوهت وجه مصر – وماتزال – فبدلا من أن يضطلع المثقفون بدورهم التنويرى فى هذه المرحلة المفصلية من تاريخنا، نجدهم منكفئون على مصالحهم الضيقة،غير عابئين بالجرم الذى يرتكبونه فى حق مصر، لقد تراجع دور المثقف الحقيقى وعلت على سطح الحياة نماذج أخرى تصدرت المشهد وأصبحت تصدر السلوكيات والثقافات للكثيرين، خاصة ممن لم يتلقوا القدر الكافى من التعليم أو التوعية، إن الأزمة الحقيقية التى تمر بها مصر هى أزمة ثقافية تتعدد ملامحها وتتوزع لتظهر فى شتى مظاهر الحياة وعلى كافة المستويات، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا، إن انسحاق المثقف أمام السلطة جرم كبير، وسلبيته وانسحابه من مواجهة دعاوى التخلف والجمود جرم أكبر، وعدم قيام المثقف بدوره التنويرى وترك الساحة لتيارات الظلام والردة يعد خيانة لضمير مصر ولهويتها ومستقبلها.