جوائز الدولة التقديرية والنيل في قادم الأيام لم ولن تعني أحدا في مصر سوي الساعين لها والعاملين عليها. فقد صدمت تلك الجوائز الكثيرين سنوات عديدة ليس بالأسماء التي فازت بها ولكن بتجاهل المستحقين لها. اثنان وخمسون عاما مرت علي إنشاء جوائز الدولة التقديرية عام 1958 في سنوات عمرها الأولي كان الفائزون بالجائزة هم الذين منحوها مكانة وهيبة ونفوذا. فقد جاءوا من زمن الحرية التي فقدناها مع ثورة يوليو. ثم جاء زمن انقطعت فيه العلاقة بين الجائزة والفائزين. فلا هي منحتهم التقدير اللازم ولا هم حافظوا علي هيبتها ومكانتها. وتحولت الجائزة في سنواتها الأخيرة إلي نفحة مالية تستحق شيئا من عناء السعي فاشتد الصراع عليها والعمل من أجلها. حتي عام 1972 كانت الجائزة قد حجبت أربع مرات. وكان عام 1983 هو آخر الأعوام التي حجبت فيها جائزة الدولة التقديرية. ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف منح الجائزة مثلما لم تتوقف مجاميع الثانوية العامة عن الارتفاع حتي وصلت الي 110% فيما كان مستوي التعليم يتدهور عاما بعد آخر. ويحتل طلابنا في اختبارات دولية للعلوم والرياضيات المرتبة الثالثة والأربعين بعد المائة بين دول العالم. في عام 1966 حجبت الجائزة في وقت كانت فيه الساحة المصرية تغص بالإعلام في كل الفروع ومنهم يحيي حقي ونجيب محفوظ اللذان فازا بها بعد ذلك. وحجبت عامي 71 و1972 قبل أن يفوز بها بعد ذلك زكي نجيب محمود وعبد الرحمن الشرقاوي ومهدي علام وشوقي ضيف ويوسف إدريس وصلاح عبد الصبور وغيرهم. ولعل ذلك يفسر لك كيف أن أوائل الثانوية العامة في ذلك الزمان لم يبلغوا أبدا حدود الثمانين في المائة. لقد أصاب التضخم كل شيء من الأخلاق العامة إلي الجنيه المصري إلي مجاميع الثانوية العامة إلي جوائز الدولة العليا. أعلم أن الجائزة فاجأت السيد وزير الثقافة عشية توليه الوزارة ولكنه الأكثر معرفة بالكيفية التي تدار بها عمليات التصويت بين أعضاء المجلس الأعلي للثقافة وغالبيتهم مشاركون بحكم وظائفهم في الوزارة. ولست أدري ما اذا كان الوزير سيبقي في منصبه حتي العام المقبل أم أنه سيغادره. وفي كل الحالات يتحتم عليه البحث في حلول فيمن يرشحون ويمنحون الجوائز العليا في الدولة في مجالات لا يعرفونها لأناس لم يسمعوا بهم. يمنحون الجوائز استنادا إلي سير ذاتية للمرشحين وترشيحات جهات يتمتعون فيها بشيء من النفوذ. فقد رشحت بعض الجامعات المصرية شخصيات تعمل في تخصصات لا وجود لها في هذه الجامعات. وفاز بأرفع الجوائز من لم يفز من قبل بجوائز أقل قيمة منها. أزمة جوائز الدولة العليا تبدأ من الترشيحات وتنتهي في الجلسة السنوية للمجلس الأعلي للثقافة. وبينهما لا تتوقف الاتصالات والتربيطات والضغوط حتي يكتب لأكثرهم حيلة وأقواهم ضغطا الفوز بالمبلغ المرصود الذي هو اليوم أكثر عناصر تلك الجوائز قيمة. أعلم أن مهمة إعادة النخبة إلي جادة الصواب ليست سهلة ولا ميسورة. فقد عاني المثقفون المصريون زمنا طويلا من الاستبداد الذي سلبهم الحرية وسلب معها حقهم في الاختيار. وفي ظل الاستبداد الذي عاني منه المثقففون شاعت بينهم أخلاق القبيلة حيث يسود الشك وتظهر الثقة فقط فيمن يعرفون شخصيا, فظهرت الشللية بينهم وتراجعت الرسالة التي كان لابد وأن يحملوها. والقبلية الثقافية التي أصابت المثقفين هي التي مهدت الطريق أمام القبلية الاقتصادية والقبلية المهنية التي أحكمت الخناق علي عنق الوطن حين احتكرت فئة تعرف بعضها جيدا ثروات البلاد وتوراثت أخري مهنا بعينها. كان المثقفون المصريون الضحية الأولي للطغيان الذي استوطن أرض مصر زمنا ليس بالقليل. فطغيان السلطة وغدرها أصاب قطاعا واسعا من المثقفين بالعدوي. ففي ظل الدكتاتورية سادت قيم الخوف والانتهازية وتوارت القيم الرفيعة التي لا يمكن أن تظهر مع القبلية الثقافية. وبدلا من أن تكون النخبة من المثقفين نموذجا تحتذبه سائر قطاعات المجتمع, أصبحت هي بذاتها مثالا لتدهور قيم المجتمع وفقدان طاقة التنوير اللازمة للحفاظ علي توازن الوطن. توارت عندهم المسئولية, لأن الذي يعرف لابد وأن يكون مسئولا عما يعرف. ولكنهم تخلوا طواعية عن مسئولية ما يعرفون. وربما كان موضوع الجوائز العليا للدولة عملا نخبويا بحتا من الترشيحات إلي المانحين والممنوحين. ولكنه أصبح نموذجا لأزمة المثقفين المصريين. فقد أصبح الإعلان عن الجوائز موسما للحصاد عند البعض ولحظة يعاني فيها علماء وأدباء كبار ربما لا يعرفون الطريق الي جوائز الدولة العليا. تحتاج الجوائز إلي ما يسمى أخلاق الشهادة TestimonialEthics وهى أن يعلن الفرد شهادته فيما يعرف باختيار حر بعيدا عن الأخلاق القبلية أو الضغوط الاجتماعية أو السياسية. الأمل أن تردد الأوساط الثقافية والعلمية صدي صرخة الحرية التي جاءت مع 25 يناير وأن تتواري مع الحرية القبلية الثقافية وأن ينهض المثقفون المصريون بدورهم المأمول في ظل قيم وطنية وإنسانية رفيعة. فالناس في مصر تتطلع اليوم إليهم ليكتشفوا ملامح الطريق إلي المستقبل وينتقلوا من التحرر إلي فضاء الحرية حيث تتجلي أرفع صور الابداع في الحياة.