مثل كثيرين حلم في شبابه بتغيير العالم..ومثل كثيرين أيضا سار العالم في وجهة أخري خلافا للحلم. المفكر والمؤرخ اللبناني خالد زيادة الذي يعود في أبحاثه المتعددة إلي التاريخ بحثا عن علاقة تربط هذا التاريخ بالحاضر..أحدث كتبه التي صدرت مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية:» الكاتب والسلطان: من الفقيه إلي المثقف» يبحث عن تلك العلاقة الملتبسة بين المثقفين والسلطة...يعود أيضا إلي التاريخ بحثا عن جذور تلك العلاقة الشائكة.. التي جعلت من المثقف الحديث، ربما وريثا لذلك الدور الذي كان يقوم به كاتب الديوان في الماضي. » الكتاب عن المؤسسات وليس عن المثقف» يقول زيادة صاحب «المسلمون والحداثة الأوروبية»..مضيفا: القضية الأساسية التي أركز عليها هي وظيفة هذه المؤسسات ودورها وعلاقتها بالسلطة، وليس بالضرروة أن تكون هذه العلاقة علاقة تبعية أو علاقة تناقض، لأننا ندرس زمنا آخر..في ذلك الزمن كان هناك بنيات راسخة تعمل وخصوصا الفقهاء الذين يضمهم جهاز ضخم هو جهاز « العلماء»، ومن ناحية ثانية جهاز الكتاب الذي يعمل في الدولة. لقد اقتنعت بأن ولادة المثقف في البيئة العربية ترتبط بتجربة التحديث في عصر النهضة والتنظيمات، وأن وظيفته لا يمكن فهمها إلا في ضوء الوظائف التي شغلها من قبل الفقهاء وكتاب الدواوين، مع التأكيد علي ضرورة التمييز بين الوظيفة، التي يضطلع بها الفرد أو المؤسسة وبين الدور الاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي يتبدل تبعا لتبدل الظروف وتغير الأسئلة من حقبة إلي أخري. الوظيفة شيء ثابت، مهنة الشخص المطلوب منه أن يؤديها علي أحسن وجه، أما الدور فمتغير وليس بالضرروة أن يكون هو نفسه في كل الأوقات. في لحظات محددة من التاريخ مثل الانقلابات والاحتلال او التدخل الخارجي يلعب « الكاتب» دوره مثلما حدث مع حملة نابليون علي مصر والدور الذي لعبه العلماء..ولكن انتهي دورهم مع صعود محمد علي إلي السلطة. وأعتقد أن المثقف الحديث هو وريث للكاتب بمفهومه القديم، وخصوصا في مصر». زيادة يعتبر أن هذا الكتاب هو الجزء الأول من مشروع كبير عن علاقة المثقف بالسلطة، وتطور مفهموم المثقف...في الجزء غير المنشور سيتناول نشأة المثقف في مصر، وفي بلاد الشام.. والاختلاف بين النشأتين وعلاقته بالحاضر. يوضح فكرته:» المثقف في مصر في نشأته أيام محمد علي كان نتاج جهاز الدولة، ونتاج بناء الدولة الحديثة، أما في لبنان وبلاد الشام فلم يكن هناك دولة مركزية، كانت الدولة هشة وضعيفة، وتبلور مفهوم المثقف في لبنان عام 1840 حين أصبح هناك إدارة تسمي إدارة « المتصرفين» وهي إدارة عثمانية ذات خصائص محلية، وبالتالي نشأ مثقفون مثل بطرس البستاني ونصيف اليازجي بين الارساليات والاهتمام بالترجمات وتلقي الأفكار الرديئة..وساهموا في انتاج ثقافة أهلية تتراوح بين المدرسة والصحيفة والمنتدي..وهذا شيء مختلف. أسأله: نشأة المثقف المصري في « حضانة السلطة» جعلته مرتبطا بها لا يستطيع الانفصال عنها؟ يجيب: في مرحلة من المراحل نشأ مثقف بعيد عن الدولة، عبدالله النديم مثال واضح علي ذلك، كان معارضا ومطاردا من السلطة، وهو يمثل الوجه الآخر من مثقف الدولة، ولكن هذا لا يمنع أن أولئك الذين عملوا في إطار الدولة كان لديهم نوع من الاستقلالية مثل طه حسين ولطفي السيد. مع ملاحظة أن الجسم الكبير للمثقفين في مصر كان تابعا للدولة، هذا شئ ليست مختصة به مصر، بل هناك في أوروبا نماذج كثيرة. يري زيادة أن تجربة المثقفين في أوروبا «متعددة»، ليست نموذجا واحدا، في فرنسا كتب إميل زولا مقالته الشهيرة» إني اتهم» التي اعتبرت بمثابة بيان للمثقف الثوري الملتزم بفكرة، رغم أن زولا كان يعمل في الجامعة الفرنسية أي في إطار الدولة، علي الجانب الآخر هناك نموذج آخر، هو النموذج الألماني إذ يعتبر المثقف الألماني شريكا في تأسيس الدولة وتوحيدها وحتي الآن يعتبر المثقف في ألمانيا ركنا اساسيا ويحظي باحترام شديد، وهو نموذج نقيض للنموذج المصري إذ ساهمت الدولة في مصر في إيجاد المثقف لا العكس. يضيف زيادة: اعتادت الدراسات علي استعادة التجربة الفرنسية من إميل زولا إلي جان بول سارتر، أو حتي لدي الإيطالي أنطونيو جرامشي، وكان لهذه الدراسات أن توضح لنا مسار المثقف اللاتيني أكثر من التعرف إلي شخصية المثقف العربي، فضلا عن كونها قدمت صورة يظهر فيها المثقف مستقلا ومعارضا للسلطة، مسترجعا فكرة الأنوار في القرن الثامن عشر المعادي للاستبداد والكنيسة. أسأله: هل تريد بذلك أن تلغي التاثير الغربي علي المثقف العربي؟ يجيب: لا بالتأكيد، ولادة المثقف في الوطن العربي، في مصر تحديدا ارتبطت بالدولة، ولكنها كانت نتاج أيضا للأفكار التي تسربت لنا من الغرب مثل الحرية الآخر الذي يمكن أن أتطرق إليه في الكتاب الجديد هو دور السياسة، حتي أيام محمد علي لم يكن هناك سياسة بالمفهوم المعاصر، أو أن يكون للرأي العام دور في الخيارات السياسية حتي عام 1887 بدأت مجموعة من المثقفين طرح فكرة الدستور، وتأسس أول حزب باسم « تركيا الفتاة»الذي ضم مثقفين عربا، مولد السياسة كان أحد شروط تبلور مفهوم المثقف. اسأله: هل اختلاف ظروف نشأة المثقف العربي الحديث في مصر والشام يعني أن هناك اختلافات فكرية.. وبالتالي هل يمكننا الحديث عن ثقافة عربية واحدة..او مفهوم واحد للمثقف العربي؟ يجيب: لست من أنصار مدرسة الخصوصية، ولكن لولا التأثير الغربي ما ولد المثقف العربي، الطهطاوي مثلا وبطرس البستاني طالبا بالأشياء ذاتها رغم اختلاف التكوين، تأثرا مع غيرهما بأفكار الثورة الفرنسية. - وماذا عن النموذج المغربي؟ - كان جزءا من تكوين المثقفين المغاربة النضال ضد الوصاية، ولذا لم تجد اشكاليات خاصة بالفرق بين الإسلام والعروبة مثلا..ولكن الأهم من وجهة نظري هو تأثر المغاربة بمدرسة الإصلاح الديني التي نشأت وتكونت في مصر علي يد محمد عبده الذي تخرج من الأزهر ولكنه كان نقيضا للأزهريين. وهنا أفتح قوسا كبيرا عن تجربة الاصلاح التي تستحق أن تعطي اهتماما كبيرا لتميزها عن التجربة الأصولية من جهة، وعن المثقف الليبرالي المتأثر تأثيرا واضحا بالغرب. المثقف الاصلاحي اعطي اهتماما للدين باعتباره الحاضنة الحضارية الكبري، وأدخل في الوقت ذاته القيم الليبرالية ، كان من رأيه أن نأخذ من الغرب ما يفيد المجتمع، وفي الوقت ذاته الحضارة الإسلامية هي مرجعنا لمواجهة العصرالحديث، وينتمي لهذه المدرسة أسماء مثل أحمد أمين، حسن الزيات، والسنهوري، حتي طلعت حرب نفسه الذي كتب في تاريخ الإسلام ، هؤلاء كتبوا عن الجانب الحضاري لا الجانب الديني الفقهي وحده. ولكن يبدو أن النموذج الليبرالي والنموذج الاصلاحي فشلا..مع صعود النموذج الأصولي..وهو ما بدا واضحا مع وصول الإخوان للسلطة في مصر وتونس؟ أظن أن المشكلة ليست مشكلة الأصولية، وإنما مشكلة الأنظمة الأحادية التي سعت الي توحيد الفكر والعقيدة، أنظمة الحزب الواحد التي كانت تسعي إلي «ارشاد» المثقف والشارع..وهذه مشكلة لم تكن موجودة قبل 1952. إذن يمكن القول أن المثقف الآن هو وريث الفقيه؟ نحن نميل كثيرا لاتهام المثقفين بالفشل، وانعدام الفاعلية. المثقفون لعبوا دورا حاسما في النصف الأول من القرن العشرين، رغم أنهم شكلوا أقلية في ذلك الوقت، وصاغوا فكرة الدولة، وصنعوا الدساتير، فعلوا ذلك في فترة لم تتجاوز الثلاثة عقود من الزمن، نشروا الثقافة الحديثة في كل الوطن العربي ليصوغوا بذلك عروبة ثقافية إصلاحية منفتحة علي الآخر. بعد الخمسينيات حدث انحسار لدور المثقف، وتم ابعاده. لاحظ مثلا أن دستور عبدالناصر لم يشارك المثقفون في كتابته علي غرار ما حدث في دستور 23. أعتقد أنه ينبغي ان نعيد الاعتبار لهذه المرحلة التي يمكن ان تفسر لنا أشياء كثيرة في الحاضر، وإن كانت هذه الفترة قد انحسرت ولم تظهر نتائجها بالشكل المطلوب لأنها لم تأخذ مداها الزمني. - ولكن أنظمة الانقلابات العسكرية هي التي نادت مثلا بفكرة المستبد العادل..عبدالناصر جاء من فكرة محمد عبده؟ - المستبد العادل فكرة جاءت من تراث قديم لم تكن هناك قد اثيرت افكار عن فصل السلطات أو المؤسسات وغيرها..وهي أفكار بدأت في أوروبا في نهاية القرن السابع عشر مع مفكرين كبار مثل اسبينوزا وجون لوك الذي نادي بتقييد الملكية، وهي فكرة ألغت فكرة « الملك ذو الحق الإلهي».. التراث العربي لم يكن قد عرف هذه الأفكار بقوة، وبالتالي هذا التراث كان يمكن ان يتقبل فكرة الخليفة العادل الذي يبسط قبضته علي المجتمع وينصف بين الناس. الأنظمة التي جاءت في الخمسينيات قامت بالأساس علي رفض كل الأفكار المختلفة. ولكن ألا يدين المثقف عدم تجاوزه للخطوط الحمراء التي تضعها السلطة..وسيره الدائم بمحازاة السياسي، بل تراجعه حتي عن أفكاره الصادمة إذا اصطدمت بالمجتمع؟ تجاربنا الليبرالية للأسف تجارب محدودة في الزمن، لم تأخذ مداها الزمني. في أوروبا أخذوا 300 عام من أجل الوصول للنموذج الأمثل للديمقراطية، ونحن تجاربنا بالفعل محدودة الزمن، كما أن المثقفين لدينا لم يواصلوا اعتراضهم لأنه لم تكن هناك حاضة سياسة تدافع عن افكارهم، كانوا أفرادا. أين كان يمكن ان يذهب طه حسين مثلا بعد أن يفصل من الجامعة؟ ولكن لاحظ أيضا أن أفكار هؤلاء انتصرت في نهاية الأمر، أفكار قاسم أمين التي رفضت وحوربت في البداية انتصرت في النهاية. هل تري أن المثقف هو وريث للفقيه؟ لا، ليس وريثا للفقيه، المثقف الحديث قد تكون له أصول مع الكاتب الديواني في تماسهما مع السلطة أما الفقيه فعالمه الدين والشريعة. الآن هناك شيء جديد لكي نفهم دور المثقف، لقد انتهت المرحلة التنويرية، المثقف التنويري مات وانتهي، لأن زمن الأفكار الكبري انتهي أيضا، وكتابي الذي سيصدر قريبا يحمل هذا العنوان «ليس لدي أوروبا ما تقدمه للعرب»، لأن تراث المثقفين العرب ارتبط بالأفكار الأوروبية الكبري، الآن انتهت هذه الأفكار، ولعلك تلاحظ أننا لم نلاحظ دورا مؤثرا للمثقفين في وقت الثورات العربية ، رأينا فقط محللين ونشطاء سياسيين. أسأله: لماذا حدث ذلك؟ يجيب: لأن المثقف لم يعد لديه فكرة يمكن أن تستقطب الجماهير، ربما الفقيه أكثر اختلاطا بالناس منعه ويخاطبهم بلغة سهلة تصل إليهم، ومع ذلك أيضا لا أظن أن للفقهاء دورا في المستقبل. أسأله: ما الذي تطلبه من المثقف؟ هل عليه أن يغادر برجه العاجي وينزل الي الجماهير؟ يجيب: لا بالتأكيد ، إذا نزل الي الشارع سيصبح ناشطا سياسيا..أظن علينا الآن أن نعيد ترتيب أفكارنا حول المثقف وطبيعة دوره...وهذا هو المهم! والدستور، إذن الأفكار أساسية في تمييز صفة المثقف عن الكاتب الديواني. الأمر