منذ منتصف القرن الماضى اكتشفت دول أوروبا أهمية إعادة بناء ثقافة المجتمع على سبيل المثال، تقوم إنجلتراوفرنسا بصفة مستمرة بتمجيد الإنجازات الماضية والحرص على الاحتفالات القومية والاحتفاء بذكرى الشخصيات التاريخية، بل تلجأ أحيانا بعض الدول إلى اختراع التقاليد وتعزيزها لتعميق الهوية القومية ويطلق على هذه الإجراءات «إحياء روح الشعب» وهى بمثابة تجديد للماضى لمواجهة أخطار المستقبل وضرورات الحاضر. وهذا يعنى أنه لم يعد ينظر إلى الثقافة على أنها نتيجة الممارسات المادية والرمزية ، وإنما هى سبب تلك الممارسات وهى الجوهر الخفى الذى يوجد خلف واجهة السلوك، ويمكن لهذا الجوهر أن يهدد أو يلوث أو حتى يحطم من قبل قوى خارجية، وفى بعض الأحيان قوى داخلية، وبناء عليه لم يعد دور المؤسسات الثقافية والتربوية فى الدولة أن تحفظ استمرارية ثقافة المجتمع؛ فالمسرح والأوبرا والأدب والشعر والمؤسسات التعليمية لم تعد تعبيرا عن ثقافة المجتمع فقط بل هى الأماكن التى تسمح بصون الثقافة وإعادة إنتاجها وجعلها فى متناول الناس. ومن هنا جاء اهتمام الدول بهذه المؤسسات باعتبارها المسئول عن إعادة النسيج الاجتماعى وإعادة روح الشعب. ونظرة للمشهد الثقافى والتربوى فى مصر لنرى ما نفعله بأجيال المستقبل، نجد أننا نقوم بهدم تاريخنا وإنجازاتنا ورموزنا، حيث يسعى الكثيرون إلى تشويه الرموز الوطنية التى قادت الثورات وحركات التغيير دون مبرر. أما فى مجال التربية والتعليم فحدث ولا حرج ، ففى الوقت الذى تحرص معظم الدول على هدف بناء المجتمع المتماسك القوى القادر على المواجهة كأهم أهداف التربية، وتسعى إلى توحيد مناهجها قدر المستطاع ( فى فرنسا وحتى وقت قريب كان كل أطفال المرحلة الابتدائيه يدرسون مجموعة نصوص «جولة فى فرنسا» حيث كانوا يتابعون أعمالا بطولية لشخصين ناشئين تأكيدا لدور المدارس فى توحيد وجدان الأجيال الناشئة، وفى مصر يتشتت أبناؤنا بين تعليم دينى وتعليم مدني، تعليم عربى وتعليم أجنبي، وكل له مناهجه وتوجهاته. ويقف الجميع فى دائرة مبهمة المعالم، فالكل حائر ومشتت لا يعرف أين الاتجاه كى نصل إلى الطريق، أى طريق سواء أكان مستقيماً أو غير مستقيم، ماذا نحتاج هل نحتاج إلى تعليم يعتمد على المعرفة والتكنولوجيا وإتقان اللغات وتوفير عمالة ماهرة لسوق العمل صالحه للسوق الداخلية والخارجية؟ هل هذا ما تسعى إليه دولة مثل مصر تحيط بها كل هذه المخاطر الداخلية قبل الخارجية؟ هل هذا يجب أن يكون هو هدفنا الأول للتعليم؟ أم نحن نحتاج إلى بناء روح الشعب؟. إننا نحتاج إلى إعادة بناء روح الشعب، فهى البوصلة التى يجب أن نتبعها لترشدنا إلى بداية الطريق. إن المسئول عن إعادة بناء النسيج الاجتماعى وإعادة روح الشعب هى المؤسسات الثقافية والتربوية وتأتى المدارس فى القلب حيث يدرس الأطفال شخصيات بارزة فى تاريخ أو أدب ثقافتهم يتشربون قيم ومعتقدات مجتمعاتهم، فلا يعنينى أن يحصل كل طفل على «تابلت» بل إن ما يهمنى هو توفير المدارس التى تقوم بوظيفتها فى تحقيق التجانس القومى عن طريق التوحد الثقافى والفكرى بين مختلف الطبقات وفى كل أنحاء الدولة، مما يؤدى إلى تماسك ووحدة المجتمع وتدعيم الولاء والانتماء فى نفوس الطلاب . إن أهم أولوياتنا الآن هى تربية القلب أو التربية الوجدانية، حيث الاهتمام بتنمية مشاعر المتعلم وتطويرها وتنمية عقائده وأساليبه فى التكيف مع مجتمعه وأهدافه. هناك شعوب تحتاج إلى وسائل الدفاع الحديثة والأسلحة التكنولوجية لحمايتها من الأخطار الخارجية، لكننا وإن كنا نحتاج إلى هذه الوسائل فإننا نحتاج أكثر إلى وحدتنا والحفاظ على هويتنا وقوتنا الثقافية والفكرية كى تحمينا من كل الأخطار. لا أستطيع أن أطلب من الدولة توحيد النظم التعليمية على الأقل فى مرحلة التعليم الأساسى كما طالب بها طه حسين منذ ثمانين عاما! بل إن كل ما أرجوه أن يدرك المسئولون إننا فى أشد الحاجة إلى إعادة روح الشعب، ويجب أن ننظر إلى العملية التعليمية على أنها تربية للقلب والوجدان أولا، ثم تعليم المعارف والتكنولوجيا. ولن يتسنى لنا هذا إلا بإعداد وتهيئة المدارس الجاذبة للطلاب وتوظيف المنهج الخفى أو المنهج الموازى لإعادة دور المدرسة الفاعلة فى تشكيل قيم وثقافة النشء وذلك من خلال تكليف أساتذة التربية والفلسفة وعلم النفس والاجتماع لوضع عناصر هذا المنهج المصاحب للمقررات الدراسية وتحديد آليات تنفيذه، على أن يفرض على جميع المدارس بمختلف أنواعها سواء أكانت دينية أو مدنية عربية أو دولية . حتى نستطيع أن ننقذ ما يمكن إنقاذه من وحدة أبناء هذا الوطن للمحافظة على سلامة أراضيه وحماية أمنه الداخلى والخارجي. لمزيد من مقالات د بثينة عبد الرءوف رمضان