* إثيوبيا قامت بوضع العربة أمام الحصان فى استعجال واضح لمحاولة كسب الوقت استغلالا لانشغال مصر بأوضاعها الداخلية، الأمر الذى تحول إلى إستراتيجية متكاملة منذ ما يقرب من عقد من الزمن، وأجراس الصراع حول قضايا المياه فى حوض النيل تقرع بشدة، وخاصة لدى مصر التى كان الرأى العام والإعلام لديها واقعا لفترات طويلة، تحت الانطباع بأن كل شىء يسير على ما يرام، وخاصة انه كان يجرى التأكيد على أن هناك توافقا على معظم نقاط الاتفاقية الإطارية ( اتفاقية عنتيبى)، المنبثقة عن «المبادرة المشتركة لحوض النيل .. إلى أن تم اكتشاف عكس ذلك، وان النقاط القليلة المختلف عليها هى حصة مصر من مياه النيل ومبدأ الأمن المائى المثير للجدل . وبدأت نقاط الصراع تطفو الى السطح ويعلن عنها فى اجتماعات كينشاسا فى مايو 2009، إلى أن وصلنا الى اجتماعات شرم الشيخ التى انتهت فى 14 إبريل 2010، بإعلان الناطق باسم دول المنابع بأن هذه الدول قررت فتح باب التوقيع على الاتفاق الإطارى وإنشاء مفوضية لدول الحوض اعتبارا من يوم 14 مايو 2010، ولمدة عام أمام من يرغب فى الانضمام.. وهكذا مثل اجتماع شرم الشيخ حدا فاصلا فى تطور مسارات أزمة المياه فى حوض النيل، وبرهن على عمق الخلافات.. والمحصلة أن مصر استيقظت فى ذلك اليوم لتواجه أزمة تتعلق بوجودها، فجغرافيتها السياسية جعلتها تعتمد على مصدر واحد للمياه هو نهر النيل، الذى ينبع من أراضى دول أخرى، بنسبة تزيد عن 95%. غير أن الأيام كانت حبلى بالمفاجآت، فمع اندلاع ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، والأحداث والارتباكات الداخلية والخارجية التى تلتها، أعلنت أثيوبيا فى مطلع ابريل 2011، عن البدء فى بناء سد النهضة على الحدود الإثيوبية السودانية ، وبسعة تبلغ 74 مليار متر مكعب، وكان من اللافت ان هذه السعة تبلغ خمسة أضعاف السعة المقررة للسد المقترح فى هذه المنطقة، وأن هذه الزيادة الهائلة فى حجم التخزين لم تكن مبررة من الناحيتين الفنية أو الموضوعية.. وكان من اللافت أيضا أن اثيوبيا قد شرعت فى البناء متجاهلة قواعد القانون الدولى بالكامل، حيث لم تقم بأى إخطار مسبق لمصر عن نيتها البدء فى هذه المنشأة بالغة الضخامة، كما تبين لاحقا فى تقرير اللجنة الدولية التى اشتملت فى عضويتها على خبراء عالميين، أن الدراسات الخاصة بالسد لم تكن مكتملة، فبعض الدراسات غير موجود أصلا مثل الدراسات البيئية، وبعضها الآخر بدائى ولا يصلح، مثل تأثير السد وأضراره من الناحية المائية( الهيدروليكية )على دولة المصب، فضلا عن وجود أخطاء بالتصميم طالبت اللجنة الدولية بضرورة مراجعتها وتعديلها. هذا السلوك اظهر أن إثيوبيا قامت بوضع العربة أمام الحصان فى استعجال واضح لمحاولة كسب الوقت استغلالا لانشغال مصر بأوضاعها الداخلية، الأمر الذى تحول إلى إستراتيجية متكاملة بنت عليها أديس أبابا أسلوبها التفاوضى الذى أفضى فى نهاية المطاف الى الدخول فى متاهة من التفاصيل الإجرائية، وصولا الى لحظة الانسداد الحالية التى توقفت عندها الاجتماعات الخاصة بدراسات سد النهضة ، فى الوقت الذى تجاوزت فيه نسبة البناء 60% من جسم السد. سد النهضة هنا ليس إلا تطبيقيا عمليا لاتفاقية عنتيبى، ونموذجا أول سوف تكرره أثيوبيا عبر بناء ثلاثة سدود أخرى على النيل الأزرق .. وفى اللحظة الحالية فان الهدف الاثيوبى الواضح هو الانتهاء من بناء السد وخلق أمر واقع جديد، مع عدم وضع أى التزام على عاتق أثيوبيا، حول سياسة التشغيل او سنوات الملء، او كيفية التصرف فى المياه المحتجزة خلف السد، وكأن المياه ملك خاص لإثيوبيا، فى حين أن المياه ليست ملكا لدولة المنبع بل هى ملك لكل الدول المتشاطئة كما تنص على ذلك قواعد القانون الدولى . على الناحية الأخرى نجد أن مصر، ومنذ قيام ثورة 30 يونيو 2013، والتحول نحو الاستقرار النسبي، قد بذلت جهودا حثيثة لتجاوز الخلافات حول قضايا المياه فى حوض النيل، عبر التأكيد على سلوكها التاريخى والتقليدى القائم على مبدأ التعاون وبناء الثقة والتشارك فى التنمية واقتسام المصالح، وتجلى ذلك فى كل التحركات المصرية باتجاه اثيوبيا وباتجاه كل دول حوض النيل، وأثمر ذلك توقيع اعلان المبادئ فى مارس 2015 ، ثم قام الرئيس السيسى بزيارة أديس أبابا ومخاطبة البرلمان الاثيوبى، حيث اكد ان « امامنا طريقين للتعامل مع الازمة .. وأن مصر قد اختارت طريق التعاون». وفيما يتعلق باتفاقية عنتيبى ، أسفرت الجهود المصرية عن عقد أول قمة لدول حوض النيل فى يونيو 2017، لمحاولة تجاوز الخلافات مع الدول الموقعة لصالح نهج تعاونى يقوم على الحلول الوسط .. ورغم عدم حدوث تقدم واضح، الا أنه قد جرى الاتفاق على انعقاد القمة القادمة لنفس الغرض، فى العام التالى فى القاهرة . والشاهد هنا انه رغم اصرار مصر على مبدأ التعاون والحلول الوسط، الا ان هناك بعض الاطراف على رأسها الطرف الاثيوبى ، مازال سلوكها تجاه القضايا محل الخلاف لا ينطلق من الحق فى التنمية بل يتجاوز ذلك الى الرغبة فى الهيمنة والتصرف المنفرد، الذى يخفى أهدافا ذات طابع سياسى واستراتيجى أيضا .. الأمر الذى يزيد من مخاطر انزلاق الأزمة الى صراع مفتوح وهو ما يحذر منه العديد من المراقبين عبر الحديث عن حروب المياه التى لن تكون فى صالح احد من ابناء حوض النيل . مما يحتم البحث عن خيارات بديلة.