إن أراد العرب الخروج من المنحني التاريخي الهابط, إلي آخر صاعد, فلن يجدوا لهم مخرجا إلا بتبني هدف دعم التكامل التنموي العربي من خلال بناء القدرة علي اكتساب المعرفة. بعبارة أخري, يتوجب علي العرب للخروج من المنحني التاريخي الهابط للأمة العربية, استبدال النفط ونمط انتاج استملاك الريع بنمط انتاج المعرفة في سياق من التكامل العربي الفعال. لا ريب في أن إقامة مثل هذه النهضة الانسانية في الوطن العربي يستلزم ما يشبه ثورة في التوجهات السياسية في عموم البلدان العربية وإعادة بناء كاملة للبنية القانونية والمؤسسية للعمل العربي المشترك لتتحرك صوب التكامل العربي وتنجز علي مهامه بفعالية. ويستلزم إنجاز المهمة التاريخية إضافة إلي كل توافر التمويل اللازم لتحويل الرؤية إلي واقع معاش. وجدير بالذكر أن المعرفة تكتسب عبر طريقين رئيسيين: التعليم, والبحث العلمي, والتطوير التقاني( التكنولوجي). فالتقانة, في الأساس, معرفة تكتسب, وإن انتشر, في البلدان المتخلفة, الفهم الخاطئ بأن التقانة هي السلع والأدوات التي تتجسد فيها المعرفة. ومعروف أن المعرفة معينها البشر ولكن أي بشر؟ ليس الجهل المهمشون,و لكن العارفين المبدعين, المبادرين والفاعلين, ولهذا, فإن بعض البشر سيدخلون عصر المعرفة قادة وسادة بينما سيدخله البعض الآخر تابعين وعبيدا. وفي هذه المقابلة تكمن إجابة التساؤل المطروح هل يصعد العرب أم يهبطون بين الأمم في العصر الآتي؟ بداية, يتعين أن يكون جليا أن المقايضة المطروحة في العنوان منطقية, وتاريخية بحق. يتوقف مصير عائدات النفط الضخمة في البلدان العربية النفطية علي عديد من العوامل, مثل تطور حجم الطلب علي النفط في العالم, ومدي النجاح في جهود التنقيب والاستخراج في المستقبل, ومدي التقدم في انتاج مصادر الطاقة البديلة واقتصادياتها. إلا أنه, في حدود المعرفة الحالية, وتقديرات الاحتياطيات المؤكدة في الوقت الراهن, فإن الوقود الأحفوري في البلدان العربية ناضب لا محالة, ربما في مدي جيل واحد أو جيلين علي الأكثر بالنسبة للنفط الخام. وكم من عربي مخلص تساءل عن مصير الدول العربية, لاسيما النفطية منها, عند نضوب النفط, أما المعرفة فهي معين لا ينضب ودائب التجدد لصناعة التقدم والنهوض. إذن الاستبدال المقترح( المعرفة بالنفط) مقايضة رابحة في منظور صناعة النهضة في الوطن العربي. ولن يقدر أي بلد عربي وحده علي بناء قدرة متميزة في انتاج المعرفة, وبوجه خاص لن تستطيع البلدان العربية النفطية وحدها إنجاز هذه المهمة التاريخية, وإنما تنهض فرصة للنجاح فيها فقط بتكامل القدرات العربية في عموم الوطن العربي. فالمؤشرات المتاحة تبين بجلاء أن بعضا من أفقر الدول العربية بمعايير المال, هي الأعلي انتاجية في مؤشرات انتاج المعرفة المعتد بها دوليا, مثل النشر في الدوريات العلمية المحكمة وبراءات الاختراع. إن كانت احتياطيات الوقود الأحفوري متركزة في مواقع بعينها في المنطقة العربية, فإن عائدات النفط والغاز قد كيفت وتيرة وطبيعة النمو الاقتصادي في البلدان العربية غير النفطية بطرق مباشرة مثل الهجرة للعمل في البلدان العربية الخليجية ومعونات البلدان العربية النفطية لبلدان العسر العربية. ولا شك في أن العائدات النفطية, والأرصدة المالية الهائلة التي فاضت عن توظيف الدول العربية النفطية المباشر لها, قد أثرت علي مجريات السياسة الإقليمية في الوطن العربي, وعلي علاقات المجموعة العربية في الساحة الدولية. ونتمني أن يدرك الجميع أن هذه الهبة الإلهية لا يجب أن تذهب عوائدها هباء, مثل أن تستخدم لشراء أسلحة باهظة التكلفة قد تترك لتصدأ بينما يستدعي الأجانب للدفاع عن البلدان العربية متي ما هددت, لقاء ثمن, أو توظف الأموال الناجمة عنها في الاقتصادات الغربية التي لا تتعاطف دولها صدقا وفعلا مع الحقوق العربية, حتي بما يتمشي مع قيمها ومبادئها المعلنة, وتتعرض قيمة التوظيفات المالية للعرب في الغرب للتدهور إبان الأزمات المالية, العالمية وفي بلدان توظيفها. وإنما قد حان الأوان لتوظيف هذه الهبة في صناعة مستقبل زاهر ممتد لمن أرسلت لهم ولأهليهم. وقد قدرت الإيرادات من قطاع النفط والغاز في البلدان العربية المصدرة لهما في العام2010 بنحو502 مليار دولار أمريكي, توزعت علي الدول الأربع عشرة المصدرة. علي جانب التمويل الممكن من أن يري المقترح النور يقترح أن تخصص نسبة من عائدات النفط والغاز في جميع البلدان العربية لصندوق دعم التكامل العربي الهادف لبناء مجتمع المعرفة الانتاجي في عموم الوطن العربي واستنقاذ اللغة العربية والثقافة العربية من ضيق الركود إلي رحابة الحيوية. ولو اقتصرت هذه النسبة في البداية علي العشر لتوافر لهذا الصندوق نحو خمسين مليار دولار في السنة. وليس هذا بكثير باعتباره استثمارا في مستقبل أفضل للأمة العربية جمعاء. وللمقارنة تكفي الاشارة إلي أن مشتريات أربع دول خليجية من السلاح, من الولاياتالمتحدة وحدها, خلال السنوات الأربع القادمة تقدر بنحو123 مليار دولار( صحيفة الفاينانشيال تايمز, لندن). بينما قدرت قيمة استثمارات الصناديق السيادية للبلدان العربية النفطية في العام2007 بنحو3 تريليونات( أي3000 مليار) دولار, وكان ينتظر أن تصل إلي12 تريليون دولار بحلول العام2015( تقديرات مورجاني ستانلي,2009). ويكفي قسم بسيط من عائد هذه الصناديق السيادية لتغطية إجمالي ميزانية الصندوق المقترح لسنوات طوال. أما بالنسبة للثورة في التوجهات السياسية المطلوبة لقيام مشروع النهضة الانسانية القائمة علي التكامل العربي الفعال الموصوف, فنتصور أنها قد بدأت فعلا بانطلاق المد التحرري العربي والذي حقق حتي الآن إنجازات ما كان أحد يتوقع حدوثها حتي قامت ثورة شعب تونس العظيمة في بداية العام2011 وألهمت باقي الانتفاضات الشعبية العربية. صحيح أن الانتفاضات لم تكتمل جميعها في ثورة شعبية منتصرة وناجحة, ويعاني بعضها حالة من الاستعصاء تقارب حربا أهلية مصغرة, ولكن قطار التحرر قد انطلق ولن يوقفه أحد بعد اليوم. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى