مضي, إلي غير رجعة, العهد الذي كانت تقاس فيه ثروات الأمم بكنوز المعادن النادرة والأحجار النفيسة أو ركاز الأرض من المعادن. وبالمثل, يتراجع بسرعة تحديد التقدم البشري بدلالة التراكم المالي, ويوشك عصره علي أن ينقضي. وبالمقابل, يستقر بإطراد أن اكتساب المعرفة, لا سيما إنتاجها, هو المعيار الأساس لتقدم الإنسانية. عندما قدم برنامج الأممالمتحدة الإنمائي في العام1990 مفهوم التنمية البشرية كتصحيح واجب للفكر التنموي المتمركز حول منطق النمو الاقتصادي السائد حينها, تبوأت المعرفة مكانة حجر زاوية في الفكر الجديد. وقد اقتضي الأمر البنك الدولي, إحدي أهم قلاع منطق النمو الاقتصادي التقليدي, قرابة عقد من الزمان لاستيعاب الفكرة وتمثلها. ولكن في العام1999, أصدر البنك تقريره السنوي عن التنمية في العالم تحت عنوان المعرفة من أجل التنمية. وفي هذا التقرير, أقر البنك بأن الفجوة في المعرفة, وليس في الدخل, أصبحت هي المحدد الرئيس لتقدم الأمم, وأكد علي أن الفجوة في القدرة علي إكتساب المعرفة, بين الدول النامية والمتقدمة, اوسع من الفجوة في المعرفة ذاتها. كما شدد التقرير, في ابتعاد ملحوظ عن اقتصاديات الحرية الاقتصادية المطلقة, علي الحاجة إلي الدعم النشط من قبل الدول لجهود اكتساب المعرفة حيث يشتهر سوق المعرفة بالفشل, بمعني أن حافز الربح لا يكفي لتنشيط إنتاج المعرفة فتبقي احتياجات الفقراء, والضعفاء عامة, من المعرفة غير مشبعة. لكنني أزعم ان الأمة العربية تنزلق حاليا علي منحني سقوط تاريخي قوامه الاعتداد الزائد بالمال الزائل علي حساب إهمال اكتساب المعرفة, المتجددة دوما, فقد اغتر العرب بالوفرة المالية الناتجة عن استنضاب النفط في بعض البلدان العربية. والمتأمل في هذه المنطقة من العالم لا يري دولا صاعدة بمفهوم القوة الشاملة في المعترك الدولي إلا إيران وتركيا, وليس أغني الدول العربية. وترتب علي هذا الاعتداد الزائد بالمال لدي البعض في دول الوفرة الإصرار علي الفرقة والتشرذم ظنا أن أموالهم ستنجيهم, وقعدت دول العسر هي الأخري عن الأخذ بأسباب التقدم قانعة باللهاث وراء حسنة من مال العرب الأغنياء. وبهذا استشري في عموم المنطقة العربية نمط استملاك الريع الذي أتطرق له بقدر من التفصيل في المقال التالي. ولقد كانت المنطقة العربية, الممتدة من المحيط الأطلسي في الغرب إلي الخليج العربي في الشرق, مهدا لحضارة رائعة في الماضي. في أوج هذه الحضارة, أي بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين, كانت الحضارة العربية الإسلامية تقود العالم في إنتاج المعرفة, معيار التقدم الإنساني في عصرنا الحالي, وكانت اللغة العربية هي لغة العلم بلا منازع, بل لغة الحضارة في جميع ميادينها. في ذلك الحين امتدت الإمبراطورية العربية الإسلامية من الأندلس, في الغرب, إلي مشارف حدود الصين الغربية, في الشرق. ومن الأساسي هنا ملاحظة أن هذه الإمبراطورية شملت تنوعا ضخما, وبالغ الثراء, في الأعراق والثقافات المحلية, بل في الأديان أيضا. وأنشئت جامعات ومراكز بحث مرموقة خلال القرنين التاسع والعاشر, قبل قيام أي مؤسسات مماثلة في أوروبا( تعود أول جامعة, في سالرنو إلي1090, وتبعتها بادوفا في1222, بعد الميلاد). هكذا, نري أن إزدهار الحضارة, وصنوه رفعة اللغة القومية, ارتبط في هذه البقعة من العالم, بالقدرة المتميزة في مضمار اكتساب المعرفة, تماما كما ترافق تدهورها الراهن مع انحطاط القدرات المعرفية, كما وثق تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني,.2003 ولعل هذا قانون إنساني عام: الموقع من اكتساب المعرفة يحدد قيمة الأمة, صعودا وأفولا. والقانون الإنساني العام الآخر, المشتق من ذلك القانون هو أن البشر هم معين المعرفة ووعائها, وما غير ذلك من إدعاء يربط التوصل للمعرفة باقتناء أدوات وآلات من ثمار التقانات الأحدث المستوردة ليس إلا محض هراء ينم عن جهل بحقائق الأشياء. من نافلة القول إذن أن لن تقوم للوطن العربي قائمة من خلال مشروع تاريخي للنهضة الإنسانية إلا عبر بوابة اكتساب المعرفة من خلال الاستثمار الكثيف في رأس المال البشري وتوجيهه نحو تعظيم القدرة علي اكتساب المعرفة, لا سيما إنتاجها. ولكن في المحصلة, وبناء علي المؤشرات الأساسية للتنمية الإنسانية, خاصة الحرية والمعرفة, ظلت المنطقة العربية راكدة, وربما أسوأ, لآماد طويلة, بالمقارنة بباقي العالم, وحتي بالنسبة للبلدان الأقل نموا, ونقدر أن التدهور قد تسارع مؤخرا. فقد قدر تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول(2002) أنه, علي الرغم من التقدم الضخم في نشر التعليم بين النشء, كان قرابة سبعين مليونا من العرب, غالبيتهم الكبري من النساء, أميين يجهلون أبجديات القراءة والكتابة, ناهيك عن مهارات العصر, في مطالع القرن الحادي والعشرين الذي يبدأ ألفية المعرفة في تاريخ البشرية. كما كان ما يقارب عشرة ملايين طفل عربي في سن التعليم, جلهم من البنات, محرومين من حقهم الأصيل في التعليم الأساسي. ونلاحظ, مرورا, أن البلدان العربية الخليجية, علي الرغم من الوفرة المالية والتحسن الضخم في نشر التعليم في العقود الخمسة الأخيرة, ليست بناجية من مثالب أنساق التعليم العربية هذه. فما زال هناك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حرمان انتقائي من التعليم الأساسي سبيلا للمعرفة بين الكبار والصغار علي حد سواء. وبحلول العام2010 كان مازال هناك حرمان من التعليم الأساسي في البلدان العربية, حتي في بلدان الوفرة المالية العربية. ونجد في استمرار قصور التحصيل التعليمي في البلدان العربية علي الرغم من صيحات التحذير القوية التي أطلقتها تقارير التنمية الإنسانية العربية, خاصة الأول(2002) والثاني(2003), علامة مرضية تدل علي تغافل الدول العربية عن مقتضيات النهضة الحق في هذه البقعة من العالم. فما زال التحصيل التعليمي في نهايات العقد الأول من القرن الحالي يدل علي قصور عن القضاء علي الأمية التعليمية حتي في البلدان العربية التي لا تواجهها مشكلات مالية. فلا نجد إلا ثلاثة بلدان عربية تحوم فيها نسبة التعلم حول95% فقط, فلسطين وقطر والكويت, وكلها قليلة حجم السكان, ما يعني أن مساهمتها في معدل التعلم الإجمالي في الوطن العربي تبقي محدودة. ولم يرق معدل التعلم في السعودية, البلد العربي الأكبر حجما في المجموعة النفطية العربية إلي مستوي90%. بينما ظل المعدل في ثلاثة بلدان عربية كبيرة الحجم نسبيا, المغرب واليمن وموريتانيا, حول60% فقط. وليست هذه مؤشرات بلدان تزمع دخول عصر المعرفة. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى