يرجع ضعف الانجاز العربي في ميدان العلم والتقانة في الوطن العربي مباشرة الي ضعف انساق العلم والتقانة علي المستوي القطري, والي ضيق السوق العربي بما يحد من الطلب علي البحث والتطوير, والي ضعف التعاون العربي في ميدان البحث والتطوير. لذلك, فان برنامجا جادا لمواجهة الازمة الحالية يجب ان يتبع استراتيجية تتكون من مسارين: مسار اجراء اصلاحات داخلية في كل بلد عربي, ومسار تعميق التعاون بين البلدان العربية في ميدان العلم والتقانه. علي المستويين القطري والقومي, ينجم ضعف جهد البحث والتطوير عن قلة مخزية للموارد المخصصة, وعن ضعف البنية المؤسسية, للبحث والتطوير, ووهن تمويل المشروعات البحثية داخلها, وانفصالها عن قطاعات المجتمع الثلاثة, الدولة وقطاع الاعمال والمجتمع المدني, مما يباعد بين نتاج مؤسسات البحث والتطوير. وهذه نواقص وثيقة الصلة ببعضا تتطلب جهدا مجتمعيا قصديا وضخما للتغلب عليها ونقائصها في مشروع تاريخي بحق لدعم البحث والتطويز تقوم عليه الدولة دون شك, ولكن يتضافر مع جهود الدولة في إنجازه مشاركة حيوية من قطاعي الاعمال والمجتمع المدني, في كل قطر وهي عموم الوطن العربي. وعلي وجه الخصوص, يقل الترابط بين الطاقات البشرية والمؤسسات العلمية, والروابط المهنية, والمنظمات الاجتماعية والاقتصادية, في الوطن العربي كثيرا عن الحد الادني اللازم لكفاءة منظومة العلم والتقانة العربية. وعلي النقيض, يتعين في مشروع النهضة أن تضمن السياسات الرامية الي تقوية التضافر بين مكونات هذه المنظومة, بنية مؤسسية, تقوم علي شبكات فاعلة بين مجتمعات البحث والتطوير العربية, تمكن البلدان العربية من الاستفادة من استثماراتها الكبيرة في الموارد البشرية. وفي مواجهة معضلة التطوير الثنائي في البلدان العربية, فلعل اكثر السبل العملية في الوقت الحالي هو التركيز علي استقطاب افضل عناصر التقانات التي يمكن استقدامها من الخارج, مع التحرز من ان استيراد السلع المجسدة للتقانة لايعني في حد ذاته استقدام التقانة, وذلك حتي تتوافر محليا شروط التطوير التقاني (نسق انتاجي ضخم ومتطور وسوق واسع يبرر التكلفة). ولكن يتعين كذلك السعي للتركيز علي مجالات تحتاجها المنطقة, أو يمكن ان تقوم فيها للمنطقة ميزة نسبية, مثل تقانات المعلومات والاتصال, واستغلال الطاقة الشمسية, وتحلية المياه. وجلي ان الفائدة التي يمكن ان تنجم من هذه التوجهات تتعاظم في سياق من التعاون العربي الفعال. الكفاءات العربية في الخارج يعيش عدد ضخم من الكفاءات العربية (عالية التأهيل) خارج البلدان العربية إذ عند نهاية القرن العشرين, كان يقدر ان نحو مليون مهني عربي أو اكثر يعملون في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (انطوان زحلان,184,1999), وهو تقدير يومي, بالمقارنة بتقديرات سابقة, الي تصاعد هجرة الكفاءات من المنطقة العربية في الربع الأخير من القرن العشرين. ودون الدخول في مزايا وعيوب هجرة الكفاءات هنا, فان وجود مثل هذه الجالية العربية الضخمة في الخارج يثير التساؤل, والتمني احيانا, حول تعظيم الاستفادة من هذا الامتداد العربي في بناء التنمية في الاوطان الأم. ويتمثل اضعف الايمان في هذا الامر بالتسليم بهجرة الكفاءات مع السعي للحصول علي بعض المكاسب, أو بعبارة ادق لتقليل الخسائر الناجمة عنها لبلدان الاصل. ويدخل في نطاق ذلك: تقوية الاواصر بين الكفاءات المهاجرة وأوطانها باشكال مختلفة (إنشاء قواعد بيانات منظمة للكفاءات العربية بالخارج, وتأسيس وسائل اتصال دورية جذابة, خاصة باستعمال تقانات المعلومات والاتصال الاحدث, ومنح تسهيلات للزيارة والاقامة في جميع البلدان العربية, ودعم الثقافة العربية في المهاجر. انشاء برامج تحقق الاستفادة من خبرة هذه الكفاءات, مع بقائها في الخارج, إما في صورة استشارات أو زيارات عمل محدودة وغيره. وتتيح التقانات الحديثة في المعلوماتية والاتصال اشكالا مبتكرة من نقل خبرة الكفاءات العربية المهاجرة في خدمة جهود التنمية في البلدان العربية عن طريق مواقع علي شبكة الانترنت مثلا تتيح قيام شبكة رقمية بين الكفاءات العربية في الخارج, والراغبين في الاستفادة من علمهم وخبراتهم في البلدان العربية( هنالك تجربة فلسطينية رائدة في هذا المجال هي شبكة ATSELAP). دعم البلدان العربية لتنظيمات الكفاءات المهاجرة حتي تصبح شكلا مؤسسيا لعلاقة ذات اتجاهين تقوم بين المهاجرين ووطنهم. ولكن لن تؤتي أي من هذه السياسات أكلها المنتظرة ما بقيت البيئة المجتمعية والبنية المؤسسية للبحث والتطوير في البلدان العربية علي حالها من حرمان الكفاءات عالية التأهيل من مقومات الابداع والحياة الكريمة المطلوبين للمساهمة في صنع التقدم في مواطنهم الاصل. أما الحد الاقصي في مواجهة هجرة الكفاءات فيعني أولا: العمل علي الحد منها بالحفاظ علي الكفاءات المقيمة, خاصة من الشباب الذين تقوي لديهم نزعة الهجرة, ويساعد علي ذلك جدية مشروع دعم البحث والتطوير المشار اليه اعلاه. وثانيا: وهو الاصعب, وان لم يكن مستحيلا, استعادة قسم من الكفاءات الموجودة بالخارج فعلا للمساهمة في تنمية بلدان الاصل. وتدل الخبرة, كما في حلات الهند والصين وكوريا, علي ان تحقيق هذا الحد من الطموح يتطلب تعطيل الاليات الاساسية التي تؤدي لنشوء ظاهرة هجرة الكفاءات عبر تخليق دور فعال, ومحقق للذات ومستوي معيشة كريم للكفاءات العربية في قيام منظومة وطنية للابتكار والابداع, وتطوير القدرة الانتاجية المحلية للوفاء باحتياجات الناس في المجتمعات العربية, وتحويل نظام التعليم لانتاج الكفاءات والمهارات المتوائمة مع ذلك الهدف, وترسيخ نسق قيم يكافئ المساهمة في تحقيق الاهداف المجتمعية بدلا من التراكم المادي الفردي. اي باختصار قيام مشروع للنهضة في المنطقة العربية. بعبارة اخري, ينتظر ان يسهم قيام مشروع للنهضة علي النمط الموصوف هنا في مواجهة فاعلة لهجرة الكفاءات العربية. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى