كانت للحرب الامريكية على فيتنام أعراض جانبية داخل الولاياتالمتحدة، مثلما كانت للحروب الأمريكية منذ مطلع هذا القرن على افغانستان والعراق اعراض منها ما تجاوز الجانبى الى المركزي، وفى الحرب الفيتنامية ظهرت تيارات ثقافية وفنية مضادة لسياسة امريكا واستراتيجياتها فى الهيمنة والتمدد كجماعة اليبيز التى تزعمها جيرى روبن وتزامنت دراماتيكيا مع الحراك الطلابى فى اوروبا خلال ثورة مايو 1968، وكان روبين يسخر من ادارة بلاده ويؤلف كتبا يتلاعب فيها بالحروف التى يتشكل منها اسم الولاياتالمتحدة كى يقدم لقارئه دلالات سلبية عن أمّة وعدت العالم بعد الحرب العالمية الثانية بتصفية ما سمى الحقبة الكولونيالية، لكنها انتهت الى العكس تماما!. ومن تظاهر من الآباء الامريكيين الذين فقدوا ابناءهم فى حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، كان شعارهم المتكرر هو عقوق الإدارات الأمريكية المتعاقبة لمواعظ الروّاد الذين بشّروا بالحرية والديمقراطية، فالشعلة التى اوقدوها كما يقول الغاضبون أطفأها جنرالات الحرب وأمراؤها من سماسرة النفط والدم! وحين تفقد دولة كبرى حتى لو كانت بسعة امبراطورية وقوتها ونفوذها المصداقية سياسيا واخلاقيا فإن ما تخسره ليس فقط أطروحتها المبشرة بجعل هذا الكوكب صالحا للإقامة والتعايش بل تخسر ايضا أهم مقومات القيادة، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استخدمت أمريكا الفيتو أو حق النقض عددا من المرات يتجاوز عدد رؤسائها دفاعا عن انتهاكات واحتلالات مورست ضد شعوب لا حول لها ولا قوة. والمثال الفلسطينى هو النموذج المتكرر الذى يجسّد الانحياز لاحتلال هو الأخير فى التاريخ!. ما كتبه جيرى روبين وآخرون فى ستينيات القرن الماضى عن حاجة أمريكا إلى النقد من الداخل اثار شكوكا لدى خصومهم من الراديكاليين ووصفوهم باليبراليين المتأنقين الذين يُصلحون ربطات العنق تحت غارة جوية!. لكن هؤلاء سرعان ما كان ردهم أنهم الديدان التى تقضم أحشاء الوحش من الداخل، وأن أمريكا بحاجة الى مضادات ثقافية وفكرية لما تطرحه من مفاعيل وظيفتها امتصاص الغضب وايهام الامريكى بأنه يملك الحق فى الثراء والرئاسة وباب الاستهلاك مفتوح على مصراعيه امامه، والحصيلة كانت ان مثل هذه الثقافة التى تتأسس على أدبيات اليانصيب تتلاعب بأحلام الناس وتحولهم من باحثين عن الحرية الى شغوفين حتى الجنون بالامتلاك، وقد يكون كتاب السايكولوجست اريك فروم بعنوان أن تملك أو أن تكون توصيفا دقيقا لما انتهت إليه الرأسمالية فى ذروة التوحش، فالرجل اوحى لقارئه من خلال عنوانه المثير بأن المقولة الشكسبيرية الشهيرة ان تكون او لا تكون تلك هى المسألة اصبحت ان تملك او ان تكون، وجاءت معالجات هربرت ماركوز فى العديد من كتبه ومن أهمها الانسان ذو البعد الواحد لتفتضح ما انتهى إليه الفرد فى مجتمعات ذهبت بالرأسمالية الى أقصى مدى وحذفت من الانسان أهم أبعاده الوجودية لصالح بعد واحد فقط هو البعد الاستهلاكى. واذا كان هناك من المثقفين الأوروبيين من يرون بأن امريكا هى حفيدة اسبارطة حيث الخوذة هى الأيقونة مقابل اوروبا باعتبارها حفيدة لاثينا الفلاسفة والديمقراطية والتنوير فإن مثل هذا التصور أثار حفيظة الأمريكيين وخصوصا من يوصفون بالواسب، وهو مصطلح يختصر اللون الابيض والبروتستانتية والانجلوساكسونية فى مفردة واحدة، وحين قال رامسفيلد إن اوروبا هى القارة العجوز التى تعانى امراض الشيخوخة وجد من الاوروبيين من يردّ عليه قائلا ان الحكمة ليست شيخوخة والحضارة ليست بطالة عسكرية ومنهم من ذهب الى ما هو ابعد وحاول تذكير رامسفيلد بشركة الهند الشرفية واحداث عام 1620، وحداثة العهد لامبراطورية من المهاجرين والمغامرين، وما يضطرنا الى العودة ولو قليلا الى التاريخ هو ان لكل ظاهرة فى عصرنا جذورا لا بد من الكشف عنها، والبراغماتية الامريكية على سبيل المثال وهى منسوبة الى برغمانوس واطروحات الذرائعية التى لا تعترف بغير الامر الواقع هى خلفية ما عبّر عنه الرئيس ترامب أخيرا حول ثنائية العقاب والثواب لدول العالم . وما سمى ذات يوم الجزرة والعصا انتهى الان الى العصا فقط، لكن الاختلاف هو فقط فى حجم العصا، فاحيانا تكون كعصا الراعى التى يهش بها القطيع، واحيانا تصبح هراوة او نبّوتا كالذى كان يستخدمه الفتوات فى الاحياء الشعبية قبل ان يسود القانون. وخطورة الوعيد الترامبى لمن لم يصوتوا فى الجمعية العامة لصالح اسرائيل بعد ان اصبحت امريكا فى الاممالمتحدة اسما مستعارا لاسرائيل سواء بقطع المساعدات او تجميدها انه يصدر عن دولة عظمى، طالما رفعت شعار الديمقراطية ، واستباحت سيادة دول واحتلتها بذريعة تحرير البشر من الاستبداد. والحقيقة ان هناك فارقا حاسما وجذريا بين شرطى العالم او الفُتوّة وبين من يقود مزاوجا بين القوة والعدالة، ومن توقع من الاستراتيجيين الامريكيين فى نهاية القرن العشرين ان امريكا ستبقى مُتربعة على عرش هذا الكوكب نصف قرن آخر على الاقل، اعادوا النظر بكل توقعاتهم وبالتحديد بعد احداث ايلول عام 2001 وما اعقبه من حروب انتهت الى استنقاع امريكى جديد فى آسيا، وقد يغيب عن الاباطرة الجدد ان قصة اندرسون الشهيرة عن الطفل الذى اكتشف عرى الامبراطور رغم تنافس الكبار فى وصف ثيابه قد يولد فى دولة افريقية او آسيوية او لاتينية فقيرة، لكنها تزهو بموروثها الثقافى وبما تكدح من اجله لتحسين شروط الحياة لدى مواطنيها، فالعالم الآن ليس مشطورا الى محسنين ومتسولين فقط ما دام هناك 128دولة تستطيع ان تقول لا بملء الفم وبمختلف اللغات لقناعتها بأن الانسان لا يحيا داجنا ومنزوع الارادة فى مستوطنة عقاب كالتى وصفها الروائى فرانز فانون، وهنا نتذكر للمثال فقط ما قاله الزعيم الراحل عبدالناصر عن الخمسين مليون دولار التى كانت تقدمها امريكا لمصر، قال ان تقنين شرب الشاى والقهوة ليومين فى الاسبوع يكفى لتعويض هذا المبلغ، ثم اشار بيده الواثقة وذراعه المديدة الى حذائه!! لمزيد من مقالات خيرى منصور