أربعة واربعون رئيسا امريكيا حلّوا فى البيت الابيض وغادروه، لم يشهد احد منهم ما حدث اثناء وداع اوباما واستقبال ترامب، حيث امتزج الوداع الاليف بالاستقبال المشوب بالحذر وأحيانا بالشجب والتنديد! ورغم ان ذلك المشهد شغل الناس وملأ الدنيا بل أقامها الا ان معظم مقاربات الميديا اقتصرت على الجزء الناتىء من جبل الجليد الغاطس فى المحيط، بحيث تم تصوير ترامب كما لو انه فرد ذو مكونات صاغت له شخصية غامضة. وبقى السؤال الأهم فى هذه التراجيكوميديا حيث امتزج الجدّ بالهزل مؤجلا، وهو كيف استطاع ترامب تحقيق الفوز بالديموقراطية وهو الذى أعلن الحرب على شرائح شملت المجتمع كلّه بدءا من رجال أعمال ونساء وفنانين من هوليوود ولم يسلم منه حتى حزبه الجمهوري، ولو أخذنا الشريحة النسائية مثالا، فإن السؤال يصبح كيف حصل على ثلاثة وخمسين بالمئة من اصوات الامريكيات اللواتى أساء الى انوثتهن وانسانيتهن فى مواقف وتصريحات موثقة بالفيديو صوتا وصورة . والكلام المستمر عن ترامب وغرابة أطواره يوحى بأن الرجل صعد الى المكتب البيضاوى فى البيت الابيض على دبابة وبطريقة عالمثالثية، لكن الواقع لم يكن كذلك، فهو قفز من صناديق الاقتراع تماما كما قفز منها من قبل ساسة غربيون وُصفوا بالفاشية وتسببوا فى حروب كونية كان ضحيّتها ملايين البشر. فما الذى يستحق السجال فى هذا السياق، وهل هو ترامب كفرد بحيث يقتصر توصيفه على ملفه الصحى والنفسى أم الديمقراطية فى طبعتها الامريكية، وهى طبعة طالما كانت موضوعا أثيرا للنقاش، منذ كانت الشقيقات السبع وهى الشركات الكبرى جنرال موتورز واخواتها تمارس نفوذا سياسيا وكذلك الميديا الميردوخية التى تُهيمن على الرأى العالم حتى ما طرأ على الولاياتالمتحدة من محددات للحرية بعد الحادى عشر من ايلول عام 2001 ؟ لقد تزامن ظهور ترامب كفرد وظاهرة مع تحولات كبرى فى الغرب وبداية صعود اليمين حتى فى اوروبا التى كانت حتى وقت قريب تحاول استعادة صباها ردا على وصف رامسفيلد لها بالعجوز من خلال فتح الابواب للمهاجرين، وذلك لأسباب ديموغرافية أكثر مما هى إنسانية، والقول بأن الاسلامفوبيا وانبعاث الثقافة الاستشراقية الكولونيالية على نحو صادم وكذلك أحداث أيلول هى الأسباب التى غيّرت اتجاه البوصلات فى الغرب نحو اليمين يغفل أسبابا أخري، منها الاقتصادى والثقافي، فالرأسمالية بلغت ذروة توحشها ولم يعد بمقدور المقاربات أو الوصفات الأليفة أن تكون فاعلة وتؤدى دورا. فهل تغيرت أمريكا إلى الحد الذى يتطلب كريستوفر كولومبوس جديدا لاكتشاف ما استجد خلال بضعة عقود فيها ؟ على الاقل بالنسبة للعرب الذين صدقوا المعجم الحديث الذى اقترح كيسنجر مفرداته ومصطلحاته، بحيث تستبدل كلمة التابع بالشريك او الحليف ويخلق هذا التناظر البروتوكولى الشكلى نديّة وهمية بين القوى والضعيف، رغم ان تعريف بول فاليرى الشهير للأسد فى الغابة على انه قطيع خراف مهضومة ومتمثلة يصدق تماما على عالم السياسة والاقتصاد. وعلى سبيل التذكير فقط سوف أورد عبارات محفوظة عن ظهر قلب فى البنتاغون نقلها الكاتب هنرى كلود عن الرئيس تافت، ومنها ان على الادارة الامريكية ان تقر قانون تدخل فعالا لتأمين بضائعها، وقبل ان يفوز روزفلت بجائزة نوبل بعامين فقط قال : كل بلد حسنت سيرته والتزم بالمنوط به يستطيع الاعتماد على صداقة امريكا، وبعكس ذلك فقد تضطر امريكا الى ممارسة دور البوليس الدولى لاعادة الامور الى نصابها، وكان ذلك عام 1940 اى منذ اكثر من سبعين عاما، وما قاله روزفلت يحذف مفهوم او مصطلح السيادة والاستقلال من المعجم الحديث، لكن التدخلات السافرة سواء كانت غزوا عسكريا كما حدث فى افغانستان والعراق او من خلال التسيير بالريموت كونترول برهنت على ان كثيرا من دول العالم تستخدم مصطلح السيادة محليا وللاستهلاك الإعلامى فقط. وحين يقول ترامب فى خطاب التنصيب بعد اكثر من قرن مما قاله سلفه كليفلاند انه سيعيد لامريكا مكانتها فهو يعترف على نحو مباشر بأن امريكا فقدت كثيرا من المكانة التى حلم بها روزفلت وكليفلاند سواء من خلال ممارسة دور البوليس العالمى او السيادة على القارات وليس على قارة واحدة فقط . إن الحكم على رئيس امريكى من خلال حظّه الثقافى او وعيه السياسى يغفل جانبا بالغ الاهمية هو دور المؤسسات والمستشارين ومراكز الابحاث، فالرئيس بوش الابن الذى سخر منه والده فى مذكراته بعنوان التقدم الى الامام واستشهد بقصة لمارك توين لم يكن يفرق بين اسم دولة واخرى فى اسيا لكنه دمّر بلدا من أعرق البلدان فى العالم وأتاح لعصابة اليمين المتطرف ان تخضع السياسة والحروب لمصالحها، لهذا فالحكم على ترامب بمعزل عن التيار الذى يمثله وهو انجلوساكسونى وواسب بامتياز به اغفال لمساحات بالغة الاهمية فى المشهد الامريكي، لكن المعلقين والباحثين الذين تعج ذاكرتهم باشباح الشخصنة والنظم الثيوقراطية والاوتوقراطية فى العالم العربى يُسقطون ما لديهم من ثقافة سياسية على الاخرين، ويعتقدون ان ترامب او اى رئيس امريكى آخر مايسترو يلوح بعصاه امام مقاعد فارغة وخالية من العازفين . ان فوز رئيس فى امريكا او اوروبا هو فوز لتيار فكرى وسياسي، والتيار الذى يصعد الان فى الغرب يمينى ومحافظ، وبدلا من ان يواصل هدم الاسوار العازلة والعنصرية بعد سور برلين بدأ يشيد اسوارا بدءا من السور بين امريكا والمكسيك حتى تأييد السور العنصرى العازل فى فلسطين . فأيه عولمة التى تعيد رسم الخرائط بجنازير الدبابات والجدران بدلا من اقلام الرصاص، وكيف نصدق دعاة الانسانوية الجديدة ومحامى حقوق الانسان وهم يعودون الى الشرانق الايديولوجية والعرقية، أليس مثيرا للدهشة ان تقول ابنة لوبان ووريثته السياسية انها لم تكن تتمنى ذات يوم ان تكون غير فرنسية، لكنها تمنت غداة الانتخابات الامريكية ان تكون مواطنة امريكية من كاليفورنيا او نيويورك لسبب واحد فقط هو ان تضيف لترامب صوتا آخر ! وقبل ان تتجه بوصلة الغرب الى اليمين بأعوام طويلة نال لوبان اقل من عشرين بالمئة من أصوات الفرنسيين، واعتبروا ذلك نذير خطر لأن اطروحات لوبان العنصرية يجب ألا تظفر بأكثر من ثلاثة بالمئة وهى النسبة التقليدية للشواذ ! الآن تغير المشهد وساهمت عوامل عديدة من داخل الغرب ذاته ومن خارجه ايضا ومنها التمدد الاخطبوطى للارهاب باسم الدين فى احراف البوصلة واتاحة الفرصة لكل ما هو هاجع من رواسب الغرب الكولونيالى كى يطفو على السطح ويجهر بما كان حريصا على إخفائه. أخيرا من هو غريب الاطوار، ترامب الفرد بكل ما لديه من مكونات ام الديموقراطية الامريكية التى اجترحت معجزة هى ان يطفو الماء على البترول والدم ! لمزيد من مقالات خيرى منصور;