حين تم تهجير نظرية الاحتمالات من الفيزياء الى السياسة لم تبق النسب المئوية على حالها سواء تعلقت بالانتخابات او الاقتصاد، فالتسعة وتسعون بالمئة سياسيا ليست كما هى فى الحواسيب لأن الواحد بالمئة قد يقلب المائدة، لذلك حين قال الرئيس الراحل انور السادات ان تسعة وتسعين من الاوراق بيد الولاياتالمتحدة ابقى الواحد بالمئة مجالا للسجال، وهل هذا الواحد بالمئة بيد موسكو ام بيد العرب انفسهم وتلك بالطبع حكاية تطول . لكن ما يجزم ان النسب المئوية لم تعد المعيار الحاسم مثالان على الاقل من فرنسا، الاول هو تعامل الجنرال ديغول مع ستين بالمئة من الاصوات على انه رسوب لهذا انسحب، وبالمقابل رأى الفرنسيون المشبعة ثقافتهم بقيم الثورة الفرنسية وتراثها العقلانى ان فوز لوبان اليمينى المتطرف والعنصرى بعشرين بالمئة من الاصوات هو بمثابة نذير بالخطر لأن امثاله لا يستحقون اكثر من ثلاثة او خمسة بالمئة على اكثر تقدير . وما يحدث الآن فى الانتخابات الامريكية يضيف الى نظرية الاحتمالات التقليدية بعدا آخر، هو ما يسمى الولايات المتأرجحة او الرمادية اى غير المحسومة لصالح احد المرشحين، والتى تحسم هذه الولايات فى ربع الساعة الاخير الامر. لكن ما علاقة هذا كله بالبيت الابيض، الذى قد تهيأ لاستضافة امرأة لأول مرة فى تاريخه ، مما يعتبر بأكثر من مقياس انتقالة نوعية تمهد الطريق لتأنيث رئاسات ومناصب ذكورية اخرى بدءا من منصب الامين العام بالأمم المتحدة ! وفوز هيلارى لو تحقق له دلالات اخرى غير ما يطفو الان على سطح الميديا سواء تعلق بالجندر او الفيمنست او اى شيء آخر، انها تضيف الى مثالين سابقين نمطا غير مسبوق فى الديمقراطية وهو ديمقراطية الوراثة، وسبقها الى ذلك اقتسام الاخوين دلاس لمنصبين سياديين رفيعين فى الولاياتالمتحدة ومن ثم فوز جورج بوش الابن الذى ورث اباه لكن من خلال الصناديق ، ولأول مرة يتدنى السجال الانتخابى بين الحمار والفيل الى مستويات عالم ثالثية بامتياز، حيث يتولى الهجاء المتبادل والتراشق بالاتهامات الاخلاقية الحوار نيابة عن الاطروحات التقليدية فى المعارك الانتخابية، وفى مقدمتها الاقتصاد، لأن الناخب الامريكى تستغرقه شجون محلية باستثناءات قليلة قد تكرس القاعدة، اما الرهانات التى خابت على فوز السيدة كلينتون فهى لم تبدأ من اول السطر، لأن العالم جربها لبضع سنوات وهى تقود الدبلوماسية الامريكية وباعترافها فهى زارت اكثر من تسعين دولة فى العالم لأداء دور مدنى واخلاقى يستهدف دمقرطة نظم تراوح بين الباترياركية والثيوقراطية !! وقد لا يحتاج العرب كما يحتاج الرأى العام الامريكى الى تسريبات حول ما قامت به السيدة كلينتون وراء الكواليس، لأنها تذكر العربى من خلال رحلاتها المكوكية بما انجزه هنرى كيسنجر فى سبعينات القرن الماضي، وما وصفه فى مذكراته بأنه دور هائل لأنه استطاع تفكيك القبضة العربية واعادة الاصابع منفردة الى مواقعها، وبالتالى تحول الاوركسترا القومية فى حرب اكتوبر عام 1973 الى عزف منفرد بعد فك الاشتباك . الثابت والمتغير قدر تعلقهما باستراتيجيات الولاياتالمتحدة وما يسمى ايضا الميتا استراتيجيات يصعب رسم حدّ فاصل بينهما، لأن ما بلغته امريكا من البراغماتية والذرائعية حذف الفواصل كلها، فما من حليف دائم وما من خصم مستمر لهذا تخلت عن بينوشيهات امريكا اللاتينية و شاهات اسيا وافريقيا، وما انجز من تفاهمات بين واشنطن وطهران رغم ما يشوبه من حذر مُتبادل يبقى احد الامثلة على ان الثابت والمتغير فى الاستراتيجية الامريكية فى حالة تداخل تبعا لبوصلة المصالح، ويمكن النظر الى دور الولاياتالمتحدة فى الحرب الكونية على الارهاب بقدر من الريبة، خصوصا فى معركة الموصل حين سعت الى جعل حركة داعش كما لو انها فى اوانى الجغرافيا المستطرقة، بحيث يتاح لمن يغادرون الموصل ممرات الى مناطق سورية متاخمة للعراق وبالتحديد فى الرقة . ومن يتابع ما يصدر عن كتاب ومعلقين امريكيين فى اوسع الصحف انتشارا من طراز توماس فريدمان يجد أنهم يعكسون ما يدور فى البنتاغون ومواقع القرار لكن بأشكال غير مباشرة وحدث بالفعل ان كتب فريدمان مقالة قال فيها ان العرب يتعاملون مع رقائق البطاطا التشبس بمهارة تفوق تعاملهم مع رقائق الكمبيوتر والالكترونيات ثم ادعى انه عرّاب المبادرة العربية للسلام التى اعلنت فى قمة بيروت للسلام ولم يظهر لها اى مفعول حتى الان، بل اعتبرها نتنياهو مجرد حبر على ورق . ونذكر ايضا ان العرب وفى المقدمة منهم الفلسطينيون تحمسوا ذات يوم لانتخاب ايهود باراك ويومها سخر احد الكتاب الاسرائيليين اليساريين من هذا الموقف قائلا: ان حملة حزب العمل هذه المرة فلسطينية، رغم ان اكبر المجازر التى ارتكبت بحق الشعب الفلسطينى مارسها حزب العمل وتفوق على الليكود فى بشاعتها خصوصا مجزرة قانا التى اودت بولاية ثانية لبطرس غالى لأنه رفض ان يتحول الى ببغاء امريكية . وما دمنا بصدد تداعيات حول ما نسميه الفيزياء السياسية او تهجير نظرية الاحتمالات فإن الرئيس الخامس والاربعين لأمريكا، له محددات دستورية وسياسية لا تجعله طليق اليد فى اية قرارات، فهو يحاكم ويدفع الثمن كما حدث لنكسون فى ووترغيت، ويتورط بمواقف اخلاقية كما حدث لبيل كلنتون فى علاقته مع مونيكا لوينسكى . ولعل هذا الارث هو ما دفع المرشحين هيلارى وترامب الى التراشق بالتهم الاخلاقية اضافة الى استخدام وسائل التواصل لنشر الفضائح . ما يغيب عنا كعرب هو ان الفائز فى اية انتخابات امريكية او اسرائيلية بالتحديد هو امريكا ذاتها واسرائيل ذاتها، لأن مرشحى الرئاسة فى البلدين هم مجرد ادوات لتنفيذ برامج واجندات وملفات طى الادراج . ولم يحدث من قبل ان تدخلت الميديا الامريكية على نحو سافر فى ترجيح كفة مرشح على آخر كما حدث هذه المرة، أشهر مجلتين والاوسع انتشارا نصحتا الناخب الامريكى بعدم التصويت لترامب، ومن بين مئة صحيفة انفردت واحدة فقط بالدفاع عن ترامب، اما مجلة الفورن سيزون بوليسى فقد نشرت مقالة قبيل اعلان نتائج الانتخابات اشبه بالنعى للديمقراطية الامريكية وبعنوان صريح هو ديمقراطية فى طور الاحتضار ، وهذه مناسبة للتذكير بما قاله الراحل ادوارد سعيد عن عدم دراية العرب بشعاب امريكا، وذكر ان هناك اكثر من مئتى مركز ابحاث امريكية عن الشرق الاوسط والعرب، لكن العالم العربى يخلو من مركز واحد جاد يقرأ امريكا من الداخل ! ان فوز ترامب بحدّ ذاته يجسد فيزياء السياسة الامريكية بحيث يصبح الواحد بالمئة اهم من التسعة وتسعين بالمئة قدر تعلق الامر بالتوقعات !! لمزيد من مقالات خيرى منصور;