خلق الله تعالى الإنسان وأراد منه العبادة، وجعله خليفة فى الأرض وأوجب عليه الانتفاع بمرافق هذا الكون واستثمار خزائنه المودعة فيه بقَدَرٍ، مع الخضوع الكامل والانقياد التام والطاعة المطلقة فى الأوامر والنواهى له سبحانه حتى يتحقق له الصلاح عاجلًا وآجلًا ويضبط نظام أمره وشئونه على وجه سديد، قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[الذاريات: 56]. وقد اشترط علماء الإسلام توافر ركنين فى العبادة حتى تكون “عبادة”، وهما: أن يعتقد المكلف كمال الربوبية فى المعبود، فالمعبود إله للمكلف. وأن يطيع فى المأمورات على قدر الطاقة البشرية وأن يجتنب المنهيات، لأن العبادة تعنى فى اللغة الطاعة والخضوع والانقياد، كما فى قوله تعالي: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5]، وفى الاصطلاح تصدق على كل امتثال لما أمر الله تعالى به مع استحضار نية التقرب إليه عز وجل حتى يثاب عليه. ولا ريب أن هذه المحددات تمثل المفهوم الصحيح لمفهوم العبادة، أما أصحاب الفكر المتطرف فقد توسعوا فى تطبيق المعنى اللغوى لهذا المفهوم الذى هو مطلق الخضوع والطاعة على الأمة حتى لم ينجُ منها أحدٌ من الحكم عليه بالكفر واتهامه بالشرك ووصفه بالضلال المبين، ذلك لأنهم تحكَّموا بظنونهم الفاسدة فتخيَّلوا أن مجرد إتيان الأعمال والأقوال هى العبادة لذاتها، وأَنَّ كلَّ عمل أو قول لا يقع إلا عبادة، فإن وقع لله فهو التوحيد، وإن وقع لغيره فهو الشرك كما يزعمون. ويضاف إلى هذا الخلل الفاسد الذى انطلق منه هؤلاء لإطلاق مثل هذه الأحكام الجسيمة على الأمة: أنهم يحصرون معانى العبادة فى جانب التعبد فقط وذلك كاقتصارهم فى تحصيل العلوم على بعض العلوم الشرعيَّة فقط، تاركين وراءهم مجالات العلوم المتشعبة وشئون الحياة المتنوعة ومتطلباتها الأخرى لغيرهم، رغم أن مقاصد الإسلام وأحكامه واضحة فى تأسيس العمران والحضارة مع الحث على العمل والضرب فى الأرض والسعى فى أطرافها والانتفاع بالمنافع والثمرات والتنقيب عن موارد الرزق فى البر والبحر، مع مطالبة المكلف دائمًا بمراعاة الموازنة بين مقتضيات الحياة وبين متطلبات الآخرة، وبين حقوق الله تعالى وبين حقوق الخلق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزورك – أى للضيف - عليك حقًّا”(صحيح البخاري). كذلك أدى بهم هذا الفهم المنحرف فى مفهوم العبادة إلى التشدد على أنفسهم وعلى غيرهم، كما حرَّضهم على الاهتمام بالتدين من حيث المظهر والشكل على حساب الجوهر، وزين لهم ملاحظة حلاوة المنطق دون مراعاة مرارة العمل والواقع، وهذا تسبب فى شيوع أمراض معضلة فى واقع الأمة شرقًا وغربًا من وجود أشكال موازية كالتدين المغشوش، والتدين المتشدد، والتدين المعكوس، والتدين السياسي، وكلها تنافس التدين الصحيح وتشوه صورته النقية فى العالمين. ولا ريب أن اختلال هؤلاء في تناول هذا المفهوم من جهة الفهم والتطبيق مآله الوقوع فى الفوضى والمهالك، لأنه بمثابة اختيار طريق الهوى الذى لا تقوم به مصالح الخلق ولا يُحقق مقاصد الاستقرار والعمران، بداية من تشويه صورة التدين الصحيح وترسيخ عزل الدين واغتراب أحكامه عن واقع الحياة، ومرورًا باحتكار الالتزام والإيمان فى أنفسهم فضلا عن الاعتقاد بأن اختياراتهم دائمًا هى الحق والصواب، وانتهاء بتكفير الأمة برَّها وفاجرهًا سلفها وخلفها تمهيدًا للخروج المسلح على دول المسلمين وتشويه مؤسساتها، وكل ذلك من المنكر الذى يقطع به الإسلام وأهله، لأن هذه الأفكار الخطيرة والأحكام الجسيمة قد بنيت على مقدمات فاسدة اعتبرت أن العبادة مجرد إتيان العمل والقول الذى يصلح للتعبُّد به، فى حين أن مفهوم العبادة يتحقق فى إتيان تلك الأعمال والأقوال بنية العبادة لمن يعتقد فيه الربوبية مع ربطها بالأخلاق والقيم كما هو عند العلماء عبر القرون. لمزيد من مقالات د. شوقى علام