كان تحرير الإعلام بصفة عامة والصحافة المكتوبة بصفة خاصة من قبضة النظام السابق وحزبه أحد أهم مطالب الجماعة الصحفية قبل ثورة25 يناير, وقبل أن تكون أحد مطالب حزب الحرية والعدالة- حزب الأغلبية الجديد- أو جماعة الإخوان المسلمين أو ميدان التحرير خلال وبعد الثورة, التي جاءت لتفتح الآفاق أمام أن تتحول الأمنية إلي واقع, والحلم إلي حقيقة. وجاء مجلس الشوري المنتخب بإرادة شعبية حرة وفي انتخابات نزيهة( في ظل إدارة المجلس الأعلي للقوات المسلحة للبلاد).... وانتظرت الجماعة الصحفية- التي انتفضت ضد النظام السابق ومشروع قانونه المشبوه رقم93 لسنة1995- أن يتخذ المجلس خطوات في هذا الاتجاه, بوصفه ممثل المالك( الشعب), وذلك بالمسارعة بترجمة المطالب علي صعيد وضع الصحافة القومية في الدستور الجديد, وطرح شكل جديد لملكيتها ولإنهاء تبعيتها للنظام الحاكم( أي نظام), وهيمنة الحزب الحاكم( أي حزب) عليها, ولإلغاء القوانين المقيدة للحريات, وفي التفاصيل تخليص الصحف القومية من أمراضها ومنها علي سبيل المثال الخلط بين الإعلان والتحرير, ولكي يكون اختيار رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء تحرير هذه الصحف ذ بمشاركة الجماعة الصحفية أمرا مقبولا وتحصيل حاصل. لكن علي طريقة بعض أحزاب ماقبل ثورة يوليو1952- التي كانت تناضل ضد حكومات الأقلية وقوانينها المقيدة للحريات, ثم ما تلبث عندما تتولي السلطة أن تستغل هذه القوانين لصالحها في انتهازية سياسية معهودة باعتبار أن عار إقرارها قد لحق بسابقتها- اختار مجلس الشوري تطبيق قوانين النظام السابق الملقبة ب القوانين سيئة السمعة بدعوي أنها القوانين السارية! ودخل علي التفاصيل باستغلال حق موروث من الحزب الوطني المنحل. ولتحسين الصورة أو بالأحري لتحديث التبعية جاء اختراع آلية معايير اختيار رؤساء تحرير الصحف, وكأن تلك هي المسألة وليس ميراثا من قوانين سيئة السمعة كان يجب التعامل معها أولا لإحداث التغيير المنشود, فمجلس الشوري نفسه كان اختراع الرئيس الراحل أنور السادات عام1980 لإحكام القبضة علي الصحافة القومية,... وتبريره لهذا الاختراع لايختلف كثيرا عن تبرير اختراعات هذه الأيام. جوهر المسألة هو أن قوي السلطة بعد الثورة قد أجلت مشروعيتها في سابقة فريدة في تاريخ الثورات, بل ووضعت بذور التشكيك في شرعيتها, وأدي هذا النهج إلي انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل ثالث حكومة بعد الثورة دون دستور يحدد صلاحيات أي منها, وحل أول مجلس شعب منتخب بعد الثورة, وتهديد بقاء مجلس الشوري نفسه وإشغال الصحف القومية والناس بعيدا عن قضاياهم, بل أدي ذلك في بعض مؤسسات الصحف القومية إلي تعطيل وتيرة تغيير بدأت فيها, فتم إغراق البلد في تفاصيل, وبات البلد كله أمام مشروع إرباك وليس أمام مشروع بناء وقضية مصير. فالشرعية هي سيادة رأي الجماعة الوطنية ورضا الشعب, الذي هو أساسا مصدر السلطات, والثورة عمل شرعي يسمو فوق القوانين, والشرعية تعطي سلطة تترتب عليها المشروعية ومن ثم لاتحتاج الثورة بالتالي إلي مشروعية القوانين السابقة علي وجودها. وليس من تفسير لأسباب استغلال الشرعية الثورية للاستهلاك السياسي, ثم التعامل بمشروعية النظام السابق سوي أن قوي السلطة التي نتجت عن الثوره حتي الآن لاعلاقة لها بالثورة, وتريد شراء وقت لتحقيق أهدافها وليس أهداف الثورة, التي لم نر حتي الآن مشروعا أو برنامجا أو خطة شاملة ثم خطوات تنفيذية حقيقية للتعامل مع أي من أهدافها, ومنها تحرير الإعلام. فقد كان المأمول لو خلصت النوايا أن يبدأ مجلس الشوري, بوصفه ممثل مالك الصحف القومية مثلا, بدعوة الجماعة الصحفية( الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين) إلي مناقشة توصيات أربعة مؤتمرات عقدتها حول أوضاع الصحافة القومية ومستقبلها وسبل إصلاحها, باعتبار أن أهل مكة أدري بشعابها, وفي أوراق هذه المؤتمرات ما يستطيع الصحفيون أن يزايدون به علي حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين فيما يقولونه عن الصحف القومية والفساد الذي استشري فيها في ظل النظام السابق. ومن ثم كان من المستحيل علي كاتب هذا المقال الذي عارض سياسات النظام السابق وساهم بجهد متواضع عبر سلسلة من المقالات قبل ست سنوات في الحديث عن أوضاع الصحافة القومية وله كتابان حول سياسات النظام السابق الخارجية انتقد فيهما انصياعه للمشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة العربية, وعارض التوريث, وكتب البلد بتحكمها عصابة, وجاء رئيسا للتحرير بعد25 يناير, ولم يراهن ولم يسع إلي رضا أي من المرشحين الرئاسيين في جولة الإعادة بين الدكتور محمد مرسي والفريق أحمد شفيق. ... كان من المستحيل أن يستبدل رضا آخرين بعصابة عارضها أو أن يطلب اعترافا بالأهلية لم يطلبه من النظام السابق, وأن يتقدم بشكل مباشر- كما سجل علنا رفضه للأسلوب غير المباشر للتقدم الي تلك اللجنة التي تحفظ عليها الغالبية العظمي من الزملاء الصحفيين بطلب تعيينه رئيسا لتحرير صحيفته, بما يهين منصب رئيس تحرير أعرق المؤسسات الصحفية في مصر والشرق الاوسط وبما يهين نفسه وتاريخه.. فقرر وبرغم أن الظروف قد تضع الإنسان أحيانا في اختيار بين مسئولية أمام مؤسسة وقارئ, وبين أوضاع وظروف غير مقبولة ألا يقبل المشاركة في هذا العبث رافضا إصلاحا مزعوما يبدأ بإهانة المهنة, طالما باتت المسألة تصفية حسابات ودفعا لثمن الحياد والمهنية, وكذلك احتراما لموقع رئيس تحرير الأهرام واحتراما لروح العمل المؤسسي ورفعا للحرج عن الزملاء الراغبين في التقدم حفاظا علي تقاليد الزمالة العريقة تلك العروة الوثقي التي يجب أن نستمسك بها في مؤسساتنا العريقة خاصة في زمن الفتنة. فالشاهد ان أيا من رؤساء التحرير لاسيما الذين عينوا بعد الثورة لم يختر نفسه ولكن هناك عوامل موضوعية قد زكته لهذا المنصب في هذا التوقيت, واختير لقيمته المهنية, وصدق قارئه علي هذا الاختيار, وقبل ذلك يدين بالفضل لوجوده في هذا المنصب لله سبحانه وتعالي ثم لدماء شهداء25 يناير, ثم إن الطريقة الجديدة المطروحة لاختيار رؤساء التحرير مهانة في ضوء ماكشفت عنه الاستقالات المسببة التي تقدم بها عضوا هذه اللجنة... الكاتب الصحفي الكبير الاستاذ صلاح منتصر ونائب الشوري والأستاذ مجدي المعصراوي, وفي ضوء رفض آخرين في أحاديث خاصة لما جري في داخلها, كما أنها تسليم بنهاية المهنة يؤذن بتحويلها إلي وظيفة, وتؤدي إلي ضياع ماتبقي للإعلام المصري من مصداقية في الداخل والخارج. فالثابت هو أن القواعد المرعية في الصحافة هي أن المالك أو ممثلة يختار رئيس التحرير, وعليه فليختار المالك نفسه رؤساء التحرير مباشرة ليتحمل المسئولية التاريخية أمام الرأي العام وأمام القارئ ولايتستر وراء لجنة اختارت من بين متقدمين. والحاصل أن مايحدث أخطر من أي مصيبة تعرضت لها المهنة من قبل, فالقضية هي قضية مصير مهنة ومؤسسات وليست طلب وظيفة, خاصة إذا أضيفت لذلك تلك التصريحات التي تصدر والأحاديث العابرة هنا وهناك- عمدا أو زلات لسان- عن دمج مؤسسات فقيرة في مؤسسات غنية كأحد الحلول المقترحة لعلاج مشاكل الأولي والتي تتسرب منها وتتكشف نوايا غير معلنة وتصورات موجودة للقيام بذلك, وعلي سبيل المثال فخلال لقائي لأول مرة الدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشوري في اجتماع المجلس الاعلي للصحافة- بينما كان الزملاء في جريدة العربي الناصري يعرضون مشاكلهم ومعاناتهم عليه- توجه إلي قائلا ماتخدوهم الأهرام, فاعتبرت تلك دعابة برغم السوابق المرة التي تنقلب فيها الدعابات إلي أمر واقع. أوضاع الصحافة القومية بعد ثورة25 يناير جزء من الأوضاع العامة في مصر.. فإذا كان هدف الثورات في الحد الأقصي بناء نظام سياسي جديد, وفي الحد الأدني- إذا واجهت عثرات- إصلاح النظام الذي ثار عليه الناس, فمن الواضح أن ثورة25 يناير تواجه عثرات ليس فقط من بقايا النظام السابق بل من داخلها أيضا, فتأجيل إقرار مشروعيتها لن يؤجل بناء نظام جديد بل سيؤجل الإصلاح ذاته, بحيث تضع السلطة الجديدة نفسها ضمن مطالب التغيير لاحقا, والشاهد أيضا أنه بالاشتباك دون قواعد مع الجيش الوطني والقضاء والصحافة أننا ذاهبون- بسبب نهج حزب الحرية والعدالة وجماعة الاخوان المسلمين- مع الرئيس المنتخب لكل المصريين الدكتور محمد مرسي إلي مرحلة انتقالية قد تطول, فبينما تفرض أوضاع البلاد أن تتكاتف كل القوي معه فإذا بها تبدأ رويدا بسبب هذه الممارسات في الانفضاض. فعلي الرغم من خطابات الرئيس بجامعة القاهرة وفي الاحتفال الذي أقامه المجلس الاعلي للقوات المسلحة لمناسبة تسلمه السلطة- بعد أدائه اليمين القانونية أمام المحكمة الدستورية وفقا لأحكام الإعلان الدستوري المكمل_ وفي حفل تخريج الدفعة106 من الكلية الحربية, وبمناسبة الذكري60 لثورة يوليو, والتي طرح فيها كلها نهجا تصالحيا وطنيا يتوافق مع التحديات والآمال وتحدث فيها عن احترام القضاء والإعلام وعن دور القوات المسلحة وانحيازها لإرادة الشعب, واحترام معاهدة السلام مع إسرائيل, فإنه يبدو غريبا استمرار الهتاف ضد القضاء والإعلام, والجيش الوطني وتوجيه إهانات إليه من جانب أنصار الرئيس لم يتعرض لها الجيش بعد نكسة1967, بينما لم تذهب هذه الهتافات إلي تلك المعاهدة ولاضد العدو الحقيقي للوطن!... فأي نظام جديد هذا يري آخرون غير الرئيس أنه يجب أن يمر عبر بوابات إهانة الجيش الوطني وإرهاب القضاء وإهانة الصحافة والصحفيين. وخلال لقائه رؤساء تحرير الصحف أعرب الرئيس ردا علي أسئلة الحاضرين عن شعور بالغبن عندما يسمع البعض يردد: لانريد حزب وطني جديد, ويتساءل الرئيس: وكأنه كان لدينا حزب أي( جماعة الأخوان)... لكن مسار الحوادث يلح علي الرئيس ألا يكتفي بالاستنكار, وأن نستفيد جميعا من تجارب الماضي. هذا اللقاء عقد تحت قبة القصر الرئاسي المنقوش عليها الدعاء اللهم إن كان فيما نجتمع من أجله الآن مايرضيك فثبت اللهم أقدامنا... وإن كان غير ذلك فاصرفنا عنه... آمين. المزيد من مقالات محمد عبد الهادى