وجوه متعبة أعياها البحث عن «حقنة بنسلين» تعيد الحياة لجسد خارت قواه.. ساقها القدر للوقوف أمام تلك النافذة الصغيرة، التى يتراص أمامها طابور غير منتظم، يأمل كل من يقف به أن يحصل على مبتغاه. بعد الأزمة التى بدأت فى سبتمبر الماضي، لم يعد الأمر سهلا كما كان فى الماضي، فالصرف الآن لا يتم إلا بروشتة طبيب، ويقتصر على علبتين فى المرة الواحدة، وهى جرعة تكفى المريض شهرا، إذا كان يحصل على حقنة كل أسبوعين. ولأن الضوابط دائما ما تثير الحنق والتململ، فالشد والجذب هو عنوان المشهد أمام نافذة صيدلية الشركة المصرية لتجارة الأدوية بمنطقة الإسعاف. لازم «روشتة»؟! السؤال المتكرر الذى يتلقاه الصيدلى المسئول عن الصرف، وبعد الرد بالإيجاب، تنهال على مسامعه القصة الإنسانية الموجعة التى يسردها عليه العشرات يوميا: «أمى طريحة الفراش وتعتمد على البنسلين منذ 15 عاما.. أنا جاى مخصوص من الشرقية.. إدينى حقنة واحدة تقومها عشان تقدر تروح للدكتور ونجيب لك روشتة».. يكرر الصيدلى أسفه لعدم قدرته على الصرف إلا بروشتة.. يواصل طالب الدواء محاولاته، وبعد أن تعييه الحيل، يعرض ترك صورة من بطاقته الشخصية، لكن الصيدلى يصر على موقفه، فيغادر الشاب الريفى متألما.. يعقبه شاب«صعيدي» هذه المرة، من المنيا، يحمل «روشتة بالية»، يتفحصها الصيدلى ليكتشف بخبرته أنها روشتة «تحاليل» فى الأصل، لكن أضيف اليها «سطر» للبنسلين بدون بيان للجرعة المطلوبة.. يواجهه بالأمر، فيتلعثم ويفشل فى الإجابة عن أسئلة الصيدلي، لكنه مع ذلك يصر على أن زوجته تصرفه بانتظام.. يقرر الصيدلى صرف علبة واحدة فقط، على أن يحتفظ بالروشتة.. يصيح فيه الشاب رافضا تسليمه إياها، وبعد شد وجذب، يصر الشاب الصعيدى على موقفه، موجها أقذع الشتائم للصيدلي، قبل أن ينصرف غاضبا. تتقدم سيدة ب «روشتة« مدون عليها تاريخ آخر »صرف« لها، فيتحقق الصيدلى من البيانات، ويصرف لها حصتها بهدوء.. تستمر »السلاسة« فى الصرف لبضع دقائق، لكن سرعان ما يشتعل الموقف من جديد، لمجرد أن يصر أحدهم على الحصول على الدواء بدون «روشتة»، أو بعد اكتشاف الصيدلى أن «الروشتة» المقدمة «مضروبة»، فيتكرر نفس الجدل بين الطرفين، ليتساءل طالب الدواء بحنق: «هل يعقل أن أحصل على حقنة واحدة لأعيد بيعها مثلا؟! ألا تفعلون خيرا لوجه الله؟! يتراجع الصيدلى عن موقفه ويقرر صرف حقنة واحدة، معلنا أنه لن يكون بمقدوره التساهل معه فى المرة القادمة. هى دى زى العلبة الصفراء؟! سؤال آخر يتكرر على الصيدلى الذى يضطر فى كل مرة أن يشرح أن النوع الجديد الذى يتم صرفه بدلا من النوع السابق، ما هو إلا إنتاج شركة أخري، لكنه بنفس المفعول.. يتلقى الناس الإجابة بارتياب، ويكررون السؤال بشكل آخر: يعنى بديل للبنسلين؟! يحافظ الصيدلى على هدوئه بصعوبة ويجيبهم: ليس بديلا.. هو بنسلين أيضا!! مشاهد متفرقة رصدناها على مدى قرابة الساعتين، أدركنا خلالها أن الأزمة مستمرة، لكن ليس لنقص البنسلين.. بل لأسباب أخرى تماما!