شكلت قضية القدس أحد أبرز الثوابت فى السياسة الخارجية المصرية على مدى عقود طويلة, ليس فقط كجزء من الالتزام المصرى بحقوق الشعب الفلسطينى المشروعة وعلى رأسها حقه فى إقامة دولته المستقلة وفقا لحدود عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية, ولكن أيضا باعتبار القدس رمزا عربيا وإسلاميا إلى جانب كونه فلسطينيا, وكذلك أيضا لأن أى تغيير بوضعية القدس العروبية من شأنه ليس فقط أن يقوض إمكانية تحقيق السلام العادل والشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين, ولكنه يقوض الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط الملتهبة أساسا بصراعاتها وأزماتها وتحدياتها وعلى رأسها خطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية. ترتكز الرؤية المصرية على أن القضية الفلسطينية هى أم القضايا وأنها مفتاح تحقيق الاستقرار والأمن فى المنطقة ومن ثم فإن غياب حل عادل وشامل ودائم لها من شأنه أن يغذى بيئة عدم الاستقرار ويفجر الأزمات الأخرى. وينبنى الموقف المصرى على أسس واضحة وهو أن حل القضية ينبغى أن يكون فى إطار السلام العادل أى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدسالشرقية وتشمل الضفة الغربية وقطاع غزة وحق عودة اللاجئين ووفقا لحل الدولتين, وبالتالى فإن أى صيغ أخرى للسلام, كما هو الحال على الطريقة الإسرائيلية, والذى يتمثل فى مجرد إقامة دويلة فلسطينية أشبه بحكم ذاتى وكانتونات معزولة فى الضفة الغربيةوغزة تقطع أوصالها المستوطنات الإسرائيلية واعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل, لن يجدى أو يحقق التسوية النهائية والشاملة لهذه القضية المزمنة منذ أكثر من نصف قرن. فسياسة الأمر الواقع التى تنتهجها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خاصة الحكومة الحالية اليمينية الدينية المتشددة بزعامة نيتانياهو فى تهويد القدس وتغيير معالمها العربية والإسلامية وتغيير تركيبتها الديموغرافية عبر المستوطنات والتضييق على المقدسيين والعدوان على المسجد الأقصى, لن تفلح فى تغيير وضع القدسالشرقية كمدينة فلسطينية عربية إسلامية, كما أن قرار الكونجرس الأمريكى عام 1995 بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس والذى يعنى اعترافا صريحا بأن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل لن يغير أيضا من الوضع القانونى للقدس والذى حسمتها قرارات الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولى وأبرزها القرار 242 الذى يعتبر أن القدسالشرقية جزء من الأراضى العربية المحتلة من قبل إسرائيل وقرارات مجلس الأمن المتعلقة بالقدس وخصوصًا القرار 252 (1968) و267 و 465 (1980) و476 و478 (1980) والتي تعتبر أن ما تقوم به إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال في مدينة القدس باطل ولاغ، وتطالب دول العالم بعدم نقل سفاراتها للقدس أو الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. ورغم أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة أجلت تنفيذ قرار الكونجرس بنقل السفارة الأمريكية لأكثر من عقدين من الزمان فى إطار ترك تقرير مصيرها لمفاوضات السلام التى ترعاها الولاياتالمتحدة رسميا منذ انطلاقها فى مدريد عام 1991, فإن إقدام الرئيس ترامب على اتخاذ مثل تلك الخطوة يحمل تداعيات خطيرة, فرغم أنه لن يغير من الوضع القانونى للقدس, إلا أنه يؤجج حالة عدم الاستقرار فى المنطقة ويدفع باتجاه تفجر انتفاضة فلسطينية جديدة, كما أنه يعنى إعلانا رسميا بوفاة عملية السلام التى تعيش حالة من الموت السريرى منذ سنوات. ولذلك كان حرص مصر وتحذيراتها من خطورة وعواقب الخطوة الأمريكية, والتحرك على مسارات عديدة لمنع تصاعد العنف سواء عبر الاتصالات المتواصلة مع الإدارة الأمريكية وأخرها اتصال وزير الخارجية سامح شكرى بوزير الخارجية الأمريكى تيلرسون والتحذير من مغبة وخطورة تنفيذ قرار نقل السفارة, أو عبر التحرك على المستوى الدولى والعربى لحشد الدعم العالمى للقضية الفلسطينية, أو على مسار توحيد الصف الفلسطيني وتحقيق المصالحة بين فتح وحماس وإنهاء حالة الانقسام التى استمرت لعقد من الزمان كان الشعب الفلسطينى والقضية الفلسطينية هى الخاسر الأكبر. ولذلك تظل القدسالشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية أحد أبرز الثوابت المصرية تجاه الشعب الفلسطينى ودعمه ومساندته حتى ينال كامل حقوقه المشروعة وهو ما يشكل صمام أمان ضد المحاولات الإسرائيلية والخطوات الأمريكية للقضاء على ما تبقى من القضية الفلسطينية.