قبل مائة وخمسين عاماً أنشئت القاهرة الخديوية.. كان ذلك عندما طلب الخديوى إسماعيل خلال زيارته لباريس عام 1867 لحضور المعرض العالمى- من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المهندس الفرنسى هاوسمان الذى خطط باريس، أن يقوم بتخطيط «القاهرة الخديوية»... ......................................................... هكذا كان إعجاب «إسماعيل» بالطرز المعمارية الفريدة لعاصمة النور بداية لإنشاء قاهرة خديوية ترث القاهرة العتيقة التى أنشأها جوهر الصقلى عام 969 لتكون حصناً ودار خلافة للفاطميين تحيطها الأسوار وتزينها المساجد والقصور، وتحميها البوابات، وبعدها ارتدت القاهرة الثوب المملوكى لسلاطين عشقوا بناء المساجد والبوابات التى تخلد ذكراهم ويحكى تاريخ حكمهم لمصر الذى مر بفترات انتصار وانكسار، صعود وهبوط حتى انتهى حكمهم على يد العثمانيين الذين شهد حكمهم لمصر أكثر العصور تأخراً وحرماناً من البناء بعد أن استنزفوا ثرواتها من العمال المهرة والبنائين العظام، حتى جاء عهد محمد على فى أعقاب الحملة الفرنسية التى أعادت اكتشاف مصر بعلمائها الذين انتجوا كتابهم العظيم «وصف مصر» بمجلداته الضخمة ورسومه وصوره التى تسجل حياة المصريين وملامح ثراثهم وحضارتهم.. أما محمد على فكان من أعظم إنجازاته قراره عام 1831 بتعمير «الخرائب» وإنشائه مجلساً مهمته تجميل القاهرة وتنظيفها وترقيم الشوارع وتسميتها وعندما حكم إبراهيم باشا لم يكن حكمه طويل المدة لكنه أنشأ قصر الروضة وبعده أنشأ عباس باشا حى العباسية بينما بدأ سعيد باشا حفر قناة السويس أما الخديوى إسماعيل فتميز عهده بطفرة معمارية حتى إنه يعتبر «العصر الذهبى للعمارة والعمران» وكانت القاهرة أول مدينة مخططة عمرانياً بمحاكاة النظام الأوروبى فى المنطقة العربية، وصارت فى عهده منارة للثقافة والفنون، ربما استلهم إسماعيل من العمارة الباريسية ليجعل من القاهرة متحفاً مفتوحاً يبهر العالم، وتحفة حضارية، ومعرضاً لعباقرة المعمار حيث أحضر المهندس الفرنسى هاوسمان معه بكل بستانى وفنان لمشاركته فى مهمته التى أوكلها إليه إسماعيل، واستقدم عمالقة التصميم المعمارى من أوروبا لتخطيط باريس الشرق.. القاهرة الخديوية. إنه رقم قياسى تحقق فيه حلم إسماعيل.. خمس سنوات فقط تحولت فيها القاهرة إلى تحفة حضارية ختمت مزيجاً فريداً متجانساً من الطرازات الكلاسيكى، والباروك والروكوكو، والقوطى الجديد وغيرها، كما عمل البستانيون الأوروبيون على غرس وزراعة أشجار نادرة فى شوارع القاهرة وميادينها وحدائقها ومنها حديقة الأزبكية التى أنشأها إسماعيل عام 1864 وحديقة الحيوان، كما انتشرت الأعمال الإنشائية الضخمة مثل كوبرى قصر النيل بأسوده الأربعة البرونزية ، وكوبرى أبو العلا الذى صممه المهندس الفرنسى جوستاف إيفل الذى صمم برج إيفل الشهير .. أيضاً افتتح إسماعيل شارع محمد على ودار الأوبرا المصرية وأنشأ خطوط الترام والسكة الحديد وقصر عابدين.. لقد استحق إسماعيل أن تسمى القاهرة باسمه (القاهرة الخديوية) كما سبق أن سميت باسم الخليفة الفاطمى الأول بمصر (قاهرة المعز) هذه النسبة اعتراف بفضله أكثر منها تشريفاً له.. يلاحظ هنا أن إسماعيل حرص على أن ينتقل فن المعمار الأوروبى إلى المصريين فاشترط على كل فنان منهم أن يعمل معه أربعة من الفنانين المصريين صاروا رواداً فى المعمار لهم طرازاتهم وإبداعاتهم المتميزة الفريدة، منهم مصطفى فهمى باشا وأبو بكر خيرت وعلى لبيب جبر بك، ومحمود رياض وسيد كريم ومحمد شريف .. الملاحظة الثانية أن القاهرة التى استلهمها مصمموها من باريس صارت ملهمة للفنانين والمؤرخين المعماريين الأوروبيين فيما بعد فأفاضوا فى وصف عظمتها بما سجلوه عن حضارتها وسحرها وعبقرية المكان وعطاء التاريخ .. فالقاهرة الخديوية لم تكن مجرد مبانى وعقارات وحدائق وتماثيل، وإنما صارت مصدراً للإشعاع الحضارى والاستنارة فاحتلت مكانة لائقة ثقافية وسياسية واقتصادية ودينية سجلها الرحالة الأوروبيون فى فترات إقامتهم بالقاهرة..