مشروع القانون الذي أقره مجلس الدوما يوم الاربعاء الماضي حول وضعية «الوكيل أو العميل الاجنبي» لكل وسائل الاعلام الاجنبية العاملة في روسيا مع ضرورة تسجيلها في وزارة العدل الروسية، يفتح الباب أمام مختلف التأويلات، ويبدو مقدمة ل «متاعب» قد يصادفها من لا ناقة له ولا جمل في هذه «العَرْكة» التي نشبت بين موسكووواشنطن، بسبب «مزاعم» تقول بتدخل قناة «روسيا اليوم» في الانتخابات الرئاسية الامريكية، ما قد يعيدنا الى «اجواء» الحرب الباردة قبيل نهاية القرن العشرين. ما إن نفذت السلطات الأمريكية تهديدها بسحب زغطاء الصحافةس عن قناة «روسيا اليوم» فى الولاياتالمتحدة، وأرغمتها على التسجيل لدى وزارة العدل الامريكية ك «منظمة» «تنطبق عليها وضعية بالوكيل الأجنبي»، أو بمعنى أدق ك«عميل أجنبي» تخضع للرقابة على مصادر تمويلها ومتابعة نشاطها واتصالاتها، حتى أقر مجلس الدوما مشروع قانون يقضى بفرض نفس «الوضعية» على الصحافة الاجنبية فى موسكو دون أن يخص بالذكر وسيلة إعلام بعينها، وهو ما قد ينسحب لاحقا على كل وسائل الاعلام الاجنبية المسجلة حاليا لدى وزارة الخارجية الروسية. صحيح أن كل السلطات الروسية التى سبق وحذرت من مغبة تصرفات السلطات الامريكية بحق وسائل الاعلام الروسية، أشارت بالاسم الى وسائل الاعلام التى سوف ينطبق عليها هذا القرار، لكنه صحيح ايضا أن القانون سوف يحمل صفة «الانتقائية» بمعنى انه سيكون سلاحا مشرعا فى وجه أى صحيفة أو وسيلة إعلامية يمكن أن تخرج عن «الخط الذى يعتمده الكرملين» بشأن نشاط أى مطبوعة أو وسيلة إعلامية أجنبية ، وهو ما فهمناه من تصريحات ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم الخارجية الروسية التى قالت ان القانون لا يمكن أن يصدر من أجل صحيفة بعينها، وانه لا يمكن استصدار قانون لكل صحيفة أو مطبوعة لا تلتزم لاحقا «بمسئولياتها المهنية». وكان بيوتر تولستوى نائب رئيس مجلس الدوما والإعلامى التليفزيونى السابق، قال أيضا «ان مشروع القانون لا يفترض تطبيق هذه «الوضعية» تلقائيا على كل وسائل الاعلام الاجنبية، لكنه أشار فى نفس الوقت الى أن السلطات الروسية ستحظر نشاط أى من وسائل الاعلام التى ترفض الاستجابة لطلب تسجيل نفسها تحت هذه الصفة انطلاقا من المعايير التى ستحدد ماهية من سوف ينسحب عليه تطبيق هذا القانون. ومع ذلك فإنه يمكن القول إن القانون الذى رفعه مجلس الدوما الى مجلس الاتحاد بعد إقراره بأغلبية ساحقة (409 من مجموع 450 عضوا)، تمهيدا لرفعه الى رئيس الدولة للتصديق عليه، يعيدنا الى أجواء سنوات «الحرب الباردة» التى عشنا معها تطبيق القيود التى تفرضها واشنطنوموسكو على تحركات الصحفيين السوفيت والأمريكيين، ومنها عدم مغادرة مقر الاقامة لأبعد من مسافة 40 كم، إلا بعد الحصول على التأشيرة اللازمة، وهى القيود التى رفعتها واشنطنوموسكو فى مطلع تسعينيات القرن الماضي، وما جرى تطبيقه لاحقا على كل الصحفيين الاجانب. وفى ذات السياق يمكن القول إن هذا القانون يبدو مماثلا لما سبق وأقرته موسكو فى عام 2012 مع أولى سنوات الولاية الثالثة للرئيس فلاديمير بوتين من قوانين بشأن وضعية منظمات المجتمع المدنى او «المنظمات غير التجارية» و«الصحافة المستقلة» فى روسيا التى تعتمد فى نشاطها على مساهمات أجنبية أو تمويل من الخارج. كان مجلس الدوما وبعد إحكام موسكو قبضتها على الانترنت ومنظمات المجتمع المدنى من خلال إستصدار قوانين تحد من انتشار وتأثير هذه الشبكات والمنظمات وبإيعاز مباشر من الرئيس بوتين، أصدر قانونا يلزم وسائل الاعلام التى تتهمها السلطات الروسية بالتدخل فى الشئون الداخلية الروسية بما صارت معه «بوقا للدعاية الاجنبية» على حد قولها، بالكشف عن مصادر تمويلها ، فى اطار ما أشارت اليه صحيفة «ازفيستيا» نقلا عن مصادر الحزب الحاكم التى قالت انه زمن حق المجتمع معرفة القوى التى تقف وراء تمويل بعض ممثلى من يسمون انفسهم «السلطة الرابعةس ومدى ما تتمتع به هذه القوى من استقلالية». واذا كانت المقدمات تحكم النتائج فان ما اعتمدت عليه السلطات الامريكية من أسانيد لاستصدار قراراتها بحق «روسيا اليوم» وتبدو أقرب الى العبثية من حيث الشكل والمضمون، لا يمكن أن تكون مبررا لانسياق موسكو وراء «التعميم» الذى ينال من «حرية الكلمة» وحقوق ووضعية الملتزمين بمواثيق «المهنة». أما عما لا تكف عنه السلطات الامريكية من تصريحات ومزاعم تقول بتدخل روسيا فى الانتخابات الامريكية، والتى صارت أشبه «بالموضة» التى انتقلت عدواها الى بلدان أوروبية اخرى، فانها تبدو وفى حقيقتها أشبه بمحاولات اليائس البائس أمام ما يشوب سياساته من قصور. ولعل ما قامت وتقوم به الولاياتالمتحدة فى روسيا والكثير من بلدان العالم من تدخل سافر فى شئونها بلغ حد الاطاحة بأنظمة شرعية، وتمويل الحركات الانفصالية، يكفى لتأكيد مدى الارتباك الذى تتسم به سياسات وتوجهات السلطات الامريكية. كانت موسكو فضحت فى أكثر من مناسبة الكثير من تجاوزات واشنطن لأبسط الاعراف الدبلوماسية، وما ارتكبته الادارة الامريكية وسفارتها فى موسكو من «جرائم» فى حق روسيا والاتحاد السوفيتى السابق على مدى عقود طويلة، بلغ حد التدخل العلنى فى الانتخابات الروسية ولا سيما إعادة انتخاب الرئيس الاسبق بوريس يلتسين فى عام 1996 تحت إشراف فريق أمريكى وصل الى العاصمة الروسية علانية، وأقام فى فندق «بريزيدنت» التابع لادارة الكرملين ، واتخذ من تاتيانا ابنة الرئيس يلتسين «وسيلة اتصال مباشر» مع أبيها وأعضاء فريقه من أساطين رجال المال والاعلام والذين كانوا فى أغلبيتهم الساحقة من اليهود الذين لاذوا لاحقا بالفرار من روسيا بعد وصول الرئيس بوتين الى سدة الحكم فى مطلع القرن الحالى. وإذا أضفنا الى كل ذلك ما قامت به واشنطن من تدخلات عسكرية غير مشروعة فى الفضاء المجاور لروسيا، مثل تنصيب حكومة فى جورجيا عقب ثورة الورود 2004 ، كان وزراؤها يتلقون رواتبهم من صندوق سوروس الامريكي، والاطاحة بالنظام الشرعى فى أوكرانيا فى فبراير 2014 ، الى جانب ما حدث فى العراق وليبيا وسوريا وافغانستان، فاننا نكون أمام أقصى درجات «العبثية والجنون» التى قد تؤدى بها الى «النهاية الطبيعية» لكل مرتكبى شتى صنوف الآثام والشرور.