عادت قضية « مؤسسات المجتمع المدنى « الى سطح الحياة السياسية، لتحتدم مجددا فى روسيا مع إقرار الرئيس فلاديمير بوتين لقانون المنظمات الأجنبية «غير المرغوب فيها» على حد التسمية الروسية. ورغم ان القانون لم يحدد أيا من هذه المنظمات، فإن وزارة العدل الروسية قد كشفت عن بعضها على موقعها الالكتروني، دون الاشارة صراحة الى أنها تظل «منظمات مجتمع مدني» تتلقى تمويلا من الخارج، ولا سيما من جانب الولاياتالمتحدة والصناديق الغربية ذات التاريخ المشبوه من منظور القول المأثور «من يملك المال يملك القرار».وتعود هذه القضية الى سنوات «البريسترويكا» وما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى السابق فى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وهى الفترة التى بدأ الغرب يزرع فيها مؤسساته التى اطلق عليها تأدبا تسميات على غرار «منظمات المجتمع المدني»، وشملت الكثير من المنظمات الاهلية، والجمعيات الدينية والثقافية وحقوق الانسان وغير ذلك من المنظمات غير الحكومية. آنذاك فرضت المتغيرات التى ماجت بها روسيا الديمقراطية واقعا جديدا شهد ميلاد الكثير من منظمات المجتمع المدنى تحت رعاية غربية، دون اى مقاومة او احتجاج من جانب السلطة الروسية التى استمرأت الارتماء فى احضان الغرب إبان سنوات حكم الرئيس الاسبق بوريس يلتسين، خوفا من ملاحقة خصومها ومنهم الشيوعيون ممن كانوا على يقين من ضرورة التغيير، استنادا الى ثوابت الداخل وبعيدا عن اى تدخل خارجي. ويذكر الكثيرون ان مؤسسات المجتمع المدني، وصناديق الدعم والمعونة التى ظهرت آنذاك كانت اشبه بحصان طروادة الذى سرعان ما اكتشفه فلاديمير بوتين حين جاء الى قمة السلطة، مع مطلع القرن الحالى ليبدأ على استحياء فى تقويم المسار، دون انكار لما لعبته هذه المؤسسات من دور ايجابى فى بعض جوانبه. وبهذا الصدد نشير الى اعتراف السلطات الرسمية بوجود المنظمات المحلية التى تلعب دورا خيريا تنويريا وتسهم فى تطوير المساهمات الاجتماعية دون أى وازع من الخارج. ومن هذا المنطلق تحديدا يعرب البعض عن احتجاجه ضد حملات التعميم ولصق تهمة العمالة بكل منظمات المجتمع المدنى ما يعيد الى الاذهان ما سبق وتعال من صخب لدى صدور قانون منظمات المجتمع المدنى الذى أثار فى حينه الكثير من اللغط والاحتجاجات. لكن ما ان اشتد عود السلطة الجديدة وبدأت فى مراجعة «خطايا الماضي» دون الالتفات الى انتقادات الغرب ومؤسساته، حتى اعلنت رسميا عن تبنى سياسات جديدة تشمل ضمنا تشديد الرقابة على كل منظمات المجتمع المدنى التى عادت وطالبتها باعادة تسجيل وجودها ومكاتبها كممثليات اجنبية، ما دامت تتلقى تمويلا من الخارج، فيما ألزمتها بضرورة الكشف عن حساباتها واعتبار موظفيها «عملاء اجانب» بموجب قانون اصدره مجلس الدوما. وقد اعتبر الكثيرون من ممثلى هذه المنظمات ومنهم الرئيس السوفيتى الاسبق ميخائيل جورباتشوف، صدور هذا القانون «تجاوزا تشريعيا»، وهو الذى يترأس حتى اليوم إحدى هذه المنظمات التى تحمل اسم»صندوق جورباتشوف للابحاث السياسية والاستراتيجية» الذى يتلقى تبرعات وهبات من مختلف الدوائر الغربية وكذلك الاسرائيلية.
غير ان بوتين واذا كان قد استطاع وضع حد لنشاط المنظمات الاجنبية ومنها الاسلامية التبشيرية والخيرية التى لعبت دورا تخريبيا فى الشيشان وشمال القوقاز، وتجاوزتهما لتتغلغل الى داخل المجتمع الروسي، فإنه لم ينكر رغما عن ذلك اهمية توجهاتها فى مجال دعم بناء المؤسسات الديمقراطية وحماية حقوق الانسان، وإن اصطدم بمقاومة وانتقادات المؤسسات الغربية ما اسفر عن نشوب ازمة سياسية بين روسياوالولاياتالمتحدة عقب اصدار مجلس الدوما قانونه حول تنظيم عملية تمويل منظمات المجتمع المدنى فى روسيا وتقنين وجودها تحت اسم « العميل الاجنبي» .
ونعيد الى الاذهان ان هذه القضية كانت قد عادت لتفرض نفسها عقب اندلاع الثورات الملونة فى جورجيا ثم فى اوكرانيا وقرقيزيا، وباتت تهدد أرجاء كثيرة فى الفضاء السوفيتى السابق ومنها روسيا، وهو ما كان فى صدارة اسباب اغلاق عدد من المؤسسات الاجنبية ومنها صندوق الملياردير اليهودى المجرى الاصل جورج سوروس، اول من وقف وراء تمويل «ثورة الزهور» فى جورجيا.
ولذا كان من الطبيعى ان تعلن السلطات الرسمية الروسية عن سلسلة من الاجراءات التى تستهدف ضبط حركة المجتمع وعلاقاته مع العالم الخارجية. ومن هذا المنظور كشفت موسكو عن تبنى وزارة الخارجية الروسية لبرنامج تعاون مع المنظمات غير الحكومة فى مختلف المجالات الانسانية والاجتماعية يحدد القانون ملامحه وابعاده. وتزعم بوتين حملة الهجوم، مشيرا فى اجتماع عقده مع انصاره من ممثلى الجبهة الشعبية الى عدم جواز ضخ الاموال الاجنبية لتمويل الانتخابات والنشاطات السياسية الداخلية. بينما خرج إلياس أوماخانوف نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي، ليقول إن الولاياتالمتحدة قامت بإنفاق مئات الملايين من الدولارات من أجل تنمية منظمات المجتمع المدنى فى روسيا على مدى السنوات الماضية ،مشيرا الى «أن ميزانية الولاياتالمتحدة تعد أحد أهم مصادرالتمويل للمجتمع المدني».
ومن نفس المنظور ايضا يكون طبيعيا وفى ظل الظروف الراهنة التى تشهد تزايد الضغوط والعقوبات الغربية ضد روسيا منذ اندلاع الازمة الاوكرانية، ان يقف الرئيس بوتين وراء إصدار قانون «المنظمات الاجنبية غير المرغوب فيها» والذى ينص على ان « المنظمات الأجنبية أو الدولية غير الحكومية التى تشكل أنشطتها خطرا على النظام الدستورى الروسى والقدرة الدفاعية للبلاد وأمن الدولة، يمكن اعتبارها «غير مرغوب بها فى روسيا».وينص القانون كذلك على «إمكانية منع المنظمات غير الحكومية الأجنبية المعنية ملاحقة موظفيها الذين يمكن أن يحكم عليهم بالسجن لفترات تصل إلى ست سنوات، كما يمكن منعهم من دخول البلاد. كما تتيح اغلاق الحسابات البنكية للهياكل المستهدفة، كما يتعين على المنظمات الروسية التى تتلقى تمويلا من منظمات غير مرغوب فيها تقديم كشف حساب عن نشاطها».
وكان الكثير من المراقبين قد سجلوا تحفظاتهم على مسألة التمويل الاجنبى انطلاقا من اعتباره «عاملا من عوامل التدخل السياسى الذى يحمل معه آثارا كبيرة على المستويين الاجتماعى والثقافى للدول المتلقية للتمويل».
من الطبيعى أن تتحدد ملامح وطبيعة علاقة الجهات الداعمة بالجهات المتلقية بالقاعدة التى تقول «من يملك المال يملك القرار». وفيما يقول البعض «إنه من السذاجة بمكان أن نتصور أن مثل هذه العلاقة تقوم على حسن النوايا والمشاعر الإنسانية البريئة فقط، يقول آخرون إنه من الخطأ أيضا النظر إلى جميع مصادر التمويل بنفس منظور التشكيك والاتهام. وليس من المنطقى كذلك وضع جميع منظمات المجتمع المدنى وبرامجها تحت دائرة التشكيك».
ومن اللافت ان الرئيس بوتين كان قد أدرك مبكرا مخاطر مثل هذا السيناريو، وانتقد بشكل غير مباشر من موقعه السابق كرئيس للحكومة الروسية ما أقدم عليه سلفه ديمترى ميدفيديف من تنازلات امام المعارضة التى كانت قد نشطت بشكل مكثف على نحو هدد البلاد بموجة جديدة من موجات «الثورات الملونة». ونذكر أنه قال آنذاك «إن المعارضين يتصرفون «بدعم» من واشنطن». وأضاف انهم «تلقوا الاشارة وبدأوا التحرك بشكل نشط بدعم من وزارة الخارجية الامريكية». واستطرد ليقول: إنه «عندما تدفع اموال من الخارج لتمويل نشاطات سياسية فى بلادنا، علينا التفكير فى الموضوع»، مشيرا الى مئات ملايين الدولارات، فيما قارن المنظمات غير الحكومية التى يمولها الغرب لمراقبة عمليات التزوير الانتخابية ب «يهوذا»، فى اشارة مباشرة الى خيانة المسيح. وما أشبه الليلة بالبارحة!.