من أسباب ظهور ونمو الإسلام السياسى إلغاء «الخلافة العثمانية» فى مارس 1924 على يد مصطفى كمال أتاتورك، فقد وجد التيار السلفى فى الحدث حافزًا لصعوده واضعًا هدف استعادتها، فتشكلت جمعية الشبان المسلمين سنة 1927 ثم جماعة الإخوان بعد ذلك عام 1928. لن تعود تلك الخلافة التى تحدث عنها الإرهابى القاتل الليبى عبد الرحيم المسمارى فى حواره مع الإعلامى عماد أديب، لأنها انتهت مع انقضاء حكم الخلفاء الراشدين وهى فترة مخصوصة أعقبت وفاة الرسول مدتها ثلاثون عامًا «ثم يؤتى الله ملكه من يشاء». الدولة العثمانية لم تبدأ منذ بداية تكوين الامبراطورية العثمانية كخلافة، بل كانت تلقب بالسلطنة ثم بالدولة السنية ثم الدولة العلية، ولم تدع الخلافة إلا فى القرن الثامن عشر وكانت مثالًا للقهر والاستبداد الذى يتعارض مع تعاليم الإسلام، وقد عامل العثمانيون شعوب الدول التى احتلوها معاملة الرعية المقهورة. يعبر العالم الجليل على عبد الرازق عن أثر الخلافة السلبى فى عدم تطور شكل الحكومة وجمود العلوم السياسية والاجتماعية فيؤكد أن الدين الإسلامى برئ من نظام الخلافة ومن الأدواء التى عصفت به وأدت لتأخير المسلمين فى سيرهم نحو التقدم. لقد شلت الخلافة كل تطور فى شكل الحكومة عند المسلمين نحو النظم الحرة خصوصًا بسبب العسف الذى أنزله بعض «الخلفاء» بتقدم العلوم السياسية والاجتماعية، لأنهم صاغوها فى قوالب تتفق مع مصالحهم. تحولت تركيا لدولة مدنية فليس لأحد أن يتفرد بالسلطة باسم الله، وكان هذا القرار هو قمة التطورات التاريخية التى حدثت منذ عام 1908 من تحديد سلطة الخليفة وحصرها فى الجانب الروحى وفصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، لتأتى جماعات إرهابية وشخصيات من أجل إعادة زمن التبعية والشمولية الدينية والولايات والحرملك والسبايا والغنائم. فكرة الحاكمية لله بدأها الخوارج واقتبسها الخلفاء الأمويون والعباسيون الذين استخدموها لتبرير مظالمهم وتوطيد سلطانهم، وبهذا المنطق سارت الأغلبية الساحقة من الحكام تحت مسمى «الخلافة» بمسيرة استبداد دينى عصفت بالأساس الإسلامى الأول للحكم وهو العدل، وبالثانى وهو الشورى. صفة الرشد فى مصطلح «الخلافة الراشدة» انصبت على رشادة شخص الخليفة ومستويات عدله، أما فى العصور المتأخرة فلا يتوافر هذا الشخص الذى يثق الناس فى ورعه ليستأمنوه على كل شىء ويفوضوه فى الحكم تفويضًا مطلقًا ويضعوا فى يده كل السلطات دون خوف من أن يستغلها اعتمادا على خوفه هو من الله. تلك كانت فكرة «الخلافة الراشدة» وتدعى أيضًا خلافة النبوة لكونها فقط التى أعقبت مرحلة النبوة، وهى سلطة بسيطة ليست مركبة؛ تعتمد على حاكم أختير لتقواه وأمانته وكونه أفضل الأحياء فى هذا الجانب، وقد قبل هو أن يحاسب أمام الله، حيث لا تملك الرعية محاسبته، فالمراقبة والمحاسبة حينئذ أخروية غيبية لا دنيوية. تلك الفكرة الأولية فى الحكم لا تملك الإجابات عن إشكاليات معقدة طرأت نتيجة التطور واختلاف طبيعة عصر عن عصر؛ فماذا عن طريقة العزل، وما هو المخرج إذا وقع خلاف على شخص الحاكم أثناء فترة حكمه؟ وأين النصوص الدستورية المنظمة لهذه الحالة تفاديًا للفتنة وسفك الدماء، وأيضًا النصوص المنظمة لعمل المعارضة السياسية وحدودها؟ وكيفية تداول السلطة بشكل سلمى حتى لا يتفاقم الخلاف السياسى ويؤدى إلى الاحتراب الأهلي؟ عدم استحداث ضمانات دستورية وقيود على سلطات الحاكم أدى للانقلاب إلى الملك الوراثى الاستبدادى الذى أعطوه عنوان الخلافة بعد صراعات دموية وحروب أهلية. تلك مرحلة فاصلة بين عهدين؛ الأول: حقبة فرض الاستقرار بالحكم الراشد وسطوة عدله وعدالته الذاتية ورقابته هو لربه، والثاني: حقبة فرض هذا الاستقرار بسطوة القوة والعصبية والقهر وحظر التعددية والمعارضة السياسية فى الدول الأموية والعباسة والعثمانية، فكان الانتقال إلى التوريث والاستبداد، وإضفاء القداسة الدينية على الحاكم. قبل التوصل حديثًا للاتجاه الثالث فى النظم السياسية كمسار أقوم وأكثر اتساقًا مع القيم الإسلامية العليا فى الحكم من شورى وحريات ومساواة أمام القانون. ويتجسد فى الفصل بين السلطات فى نظم الحكم الحديثة وتنظيم عمل المعارضة السياسية من خلال تشكيل أحزاب تنافس على السلطة وتراقب أداء الحاكم. هذا هو الضامن الوحيد فى العصر الحديث لعدم الوقوع فى حالة الفراغ الدستورى بما تنطوى عليه من مخاطر تهدد وحدة الأمة واستقرار المجتمع التى حدثت فى نهايات ولاية الخليفة الثالث التى سببت أحداث الفتنة الكبري. لن يوجد مستوى ورع وأمانة أبو بكر أو عمر وعثمان وعلي، فلزم تمكين الشعب من المحاسبة والمراقبة استنادًا إلى معايير الحرية السياسية، وهذا يتيح للشعب من خلال مؤسسات الدولة الرقابية والقضائية والتشريعية رقابة الحاكم ومحاسبته، تلك هى القصة باختصار وتكثيف. يأتى مهووسون بالسلطة بعد هذا التطور ومرور كل هذا الوقت دون أدنى استحقاق ودون امتلاك كفاءة لإدارة شئون ولو قرية صغيرة، ودون أن يطلعوا على جوهر الدين وحقائق التاريخ، ليهاجمونا ويعتدوا على حدودنا ويقتلوا زهرة شبابنا، لأجل فكرة خبيثة ليس لها أى أساس من المنطق أو إمكانية التطبيق. فقط هم يحلمون بمنصب يحكمون فيه باسم الإله دون حسيب أو رقيب ليتسنى لهم فعل ما يشاءون من نهب وسلب وإشباع أهواء ونزوات، وفى نفس الوقت يضمنون عدم وجود فضاء سياسى دستورى تعددى مفتوح يكشف ضحالتهم وجهلهم وضآلتهم العلمية والإدارية. لمزيد من مقالات هشام النجار;