من المستحيل أن نعيد أوجه قبيحة استبدادية تحت ستار الشريعة بقلم : سليمان فياض في بداية العقد الثالث من القرن العشرين سقطت الخلافة العثمانية، وسقط بسقوطها نظام الدولة الدينية والمدنية معا، وكانت رابعة الخلافات الإسلامية الكبري، التي عرفها تاريخ المسلمين، بعد خلافة الخلفاء الراشدين. سقطت هذه الخلافة مثلما سقطت من قبلها الخلافات الأموية، والعباسية، والفاطمية، وكانت كلها خلافات قهر إمبراطورية، لأسر ملكية حاكمة، أموية كانت أو هاشمية، أو تركية عثمانية، خلافات يضع خلفاؤها علي وجوههم أقنعة الدين، إذا جاز أن يكون للدين قناع، فقد كانوا في حقيقتهم ملوكا دنيويين، يستخدمون شعارات الدين لإخضاع البلاد، والعباد، ويهدمون في كل يوم مقاصد الدين، ومن هذه المقاصد: العدل، وحرية الاعتقاد، والأمن، والتكافل الاجتماعي، والإخاء والمساواة، واستقلال بيت مال المسلمين، عن بيوت أموال الحاكمين. وحين سقطت الخلافة الثعمانية، انفتح الطريق لنظام أو أنظمة الدولة المدنية، المشرعة لقوانين مدنية، في كل ما لم يرد به أمر أو نهي من أمور الدين، والتي تحقق في الوقت نفسه، بسلطان الحكم الشوري، مقاصد الدين. وإثر سقوط الخلافة العثمانية آخر الخلافات في تاريخ المسلمين، تباكي فقهاء ودعاة تراثيي الثقافة والمعرفة، علي ضياع الخلافة، وتجاهلوا كل تاريخ خلافات القهر، التي قمعت بالغزو كل الشعوب، باسم الدين، وفرضت الجزية علي كل من أسلم من أبناء هذه الشعوب، مخالفة بهذا الفرض، أمرا من أوامر الدين: لا جزية علي من أسلم، فبذلك الأمر عمل الرسول، وبذلك الأمر عمل الخلفاء الراشدون، واتهمت هذه الخلافات القهرية كل المسلمين غير العرب، الذين أسلموا بعد فتح بلادهم بالشعوبية، لأنهم طالبوا بالمساواة، وبتحقيق مقاصد الدين، علي أيدي الحكام الدنيويين الغازين. وراح هؤلاء الدعاة يكتبون ويخطبون داعين إلي عودة الخلافة في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، وكان نظام الخلافة من أركان الإسلام، وفروض الدين، بعد عصر الخلفاء الراشدين. وطمع ملوك دنيويون، في أسر عربية أو تركية حاكمة، في السعودية، وفي مصر، في أن يكونوا خلفاء للمسلمين، في القرن العشرين، واصطنع لهم علماء وفقهاء وكتابا دعاة أشجار أنساب، تنتمي إلي آل البيت. لكن التيار الإسلامي المدني كان جارفا، ففشلت محاولات العودة إلي النظام الخلافي في العقد الخامس من القرن العشرين. ومع تنامي حركات الجمعيات والجماعات الإسلامية، في العقد السابع من القرن العشرين، عادت الدعوة إلي نظام عودة الخلافة، واصطنعت هذه الدعوة لنفسها تنظيمات إرهابية، ترفع شعار الجهاد، وتكفر النظم الإسلامية المدنية، وكل المسلمين في هذه الأنظمة، فعين هؤلاء الدعاة علي الهدف الأخير، من كل التنظيمات السرية، والعمليات الإرهابية. والهدف هو إقامة نظام الخلافة من جديد، والعودة بالحاضر إلي الماضي، بمظالمه، وصراعاته، وفتنه، وثوراته، ومصارع رجاله، وإلغاء حق الشعوب المدني والدنيوي، في تقرير المصير، واختيار نظام الحكم الشوري المدني، واختيار الحاكمين، وتحديد مدة حكم الحاكم، بل مدد المجالس الشورية المنتخبة، تفاديا لقهر الحاكمين، وتجديدا لنظام الحكم وروحه، كل بضع سنين. ولقد أثبت تاريخ المسلمين، فشل تجارب الخلافات الإسلامية السنية، والشيعية، وبأيدي مؤرخين مسلمين، في العصور الوسطي، وفي العصر الحديث ممن كتبوا عن وقائع الخلافة، وأحداثها، وممن كتبوا عن خفايا بلاطات هذه الخلافات، وعن انشقاق الشعوب الإسلامية، في دول مسلمة، عن جسم دولة الخلافة، هربا بدينهم وديناهم معا من القهر الخلافي ومظالمه، وتحقيقا لحق الشعوب في تقرير مصيرها، واستغلالها لثرواتها، وعائد عملها وعرقها. وكتبوا عن وقائع مفزعة لخلفاء القهر في حكم الشعوب، وفي صراعات هؤلاء الخلفاء مع بعضهم البعض، ومع أمرائهم وولاتهم وعمالهم. ومع ذلك يسعي سفهاء العقل، والذين لم يستفيدوا من دروس التاريخ، وتجارب الخلافات الإسلامية، إلي عودة نظام الخلافة، ويعلمون أن مثالب هذا النظام في إدارة أمور الدنيا، تطغي علي أحلام الحالمين. لقد اعتدنا فيما نكتبه عن عصور الخلافة، علي ألسنة فقهاء ودعاة، وفي كتب التربية والتعليم، أن نتحدث عن ازدهارات للخلافة الإسلامية، الأموية، والعباسية، والفاطمية، وفتوحات هذه الخلافات، وثراء أغنيائها، وحركة تجارتها الداخلية والخارجية، والتطور العلمي النظري، والعلمي، في ظل هذه الخلافات، لكننا تجاهلنا مثالب هذه الخلافات، وصور قهرها للشعوب، ولأبناء هذه الشعوب، ومحن الفقهاء والعلماء والكتاب والوزراء، في ظل خلافات القهر، وسلبها لحق هذه الشعوب المسلمة في تقرير مصيرها. تجاهلنا هذا الوجه الآخر لأنظمة خلافات القهر. وغايتنا من هذا الكتاب، أن نستل من كتب المؤرخين المسلمين، القدامي منهم والمحدثين، ومن تحليلات هؤلاء المؤرخين، صور هذا الوجه الآخر لخلافات القهر، الوجه القبيح، ونضعها بين أيدي القارئين عامة، والداعين إلي عودة النظام الخلافي خاصة، في العالم العربي، والعالم الإسلامي، وأحسبهم سيكتشفون أن نظام الخلافة لا ينبغي للمسلمين أن يعودوا إليه مرة أخري، فهو نظام فرضته العصور الوسطي، وكان طبيعيا أن يوجد في تلك العصور. في العصور الوسطي، كان وجه الأرض كله، في قارات العالم الثلاثة، المعروفة في تلك العصور، يحكم بأسر حاكمة، تقدم لحكم الشعوب حكاما يحملون ألقاب: الملك، والسلطان، والإمبراطور. وقدم العالم الإسلامي الوليد للحكم أسرا حاكمة، يحمل بنوها المختارون للحكم، لقب خليفة. وكان المقصود بهذا اللقب في عصر الخلفاء الراشدين أن الحاكم خليفة، لأنه يخلف من سبقه، إلي أن اجترأ الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور فجعل الخليفة، خليفة الله سبحانه في أرضه، وظِل الله المدود علي الأرض، ولعله وجد من الفقهاء ورجال الحاشية، من يفسر له آية الاستخلاف لآدم، بأنها تعني أن الخليفة هو خليفة الله، الذي اختاره الله، ولم يختره العباد، والآية لم تعن أكثر من أن الجنس البشري بأسره «من أبناء آدم» قد استخلفه الله في الأرض، لتعمير الأرض. ولم يكن ممكنا، في غيبة تجارب أخري لأنظمة الحكم السائدة، في عصور العالم القديم، والعالم الوسيط، أن يوجد تصور آخر، غير تصور نظام الخلافة، لحكم المسلمين، تصور كان الخليفة الحاكم فيه فردا، يحكم طوال عمره، ويختاره صفوة أهل المدينة الحاكمة، ليكون حاكما خليفة لكل المسلمين، بصرف النظر عن كونه من آل البيت «علي بن أبي طالب» أو من غير آل البيت «أبوبكر، وعمر، وعثمان». ثم فرض منطق العصر في نظام الحكم، وفي مواجهة أسر عالمية حاكمية، يحل حكامها لقب: إمبراطور، وكرسي، وملك، فرض أسرا إسلامية حاكمة من آل البيت أو من غير آل البيت، وفرض منطق العصر نفسه، تلك الصراعات السياسية الدامية، في تاريخ المسلمين بين الأسرة المسلمة الحاكمة، وأسرات أخري كبري، قبلية بالضرورة تسعي إلي الحكم بدعاوي عربية، أو فارسية، أو تركية، أو بربرية، وترفع شعارات الإنقاذ للدين، تماما مثلما كان يحدث في بلاد فارس والروم. كان ذلك هو منطق العصور الوسطي، وواقعها، في أنظمة الحكم، وتحت هذا المنطق، ومع ذلك الواقع، اندرجت الخلافة الإسلامية، بعد ثلاثة عقود فقط، من عصر النبوة، ولم يكن ممكنا في تلك العصور سوي هذا التصور لنظام الحكم الإسلامي، الذي مد أجنحته علي أراض وشعوب بلاد مفتوحة، انهارت بفتحها إمبراطوريتا: الفرس، والروم، وكانت هاتان الإمبراطوريتان هما قوتا التوازن الدولي، في تلك العصور. وإثر هذه الفتوحات بقليل، وبقوة أسرتين حاكمتين مسلمتين، صار نظام الحكم الجديد مثل نظام الحكم القديم، الفارسي، والروماني، فلم يتغير في البلاد المفتوحة شيء، سوي أن أهلها صاروا مسلمين بعد أن كانوا غير مسلمين، وأن نظام الحكم الساساني، أو البيزنطي، صار هو نظام الحكم الخلافي. ولقد قدمت العصور الحديثة، للجنس البشري، أنظمة ديمقراطية للحكم والإدارة، أثمرتها التفاعلات الحضارية السابقة، عبر العصور، وأثمرتها التفاعلات الدولية في العصر الحديث، والثورات الكبري الحديثة، وعلي أساس من حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق الشعوب في الاستقلال بهذا المصير، وحق الشعوب في اختيار حاكميها من بين من يرشحون أنفسهم للحكم، أو ترشحهم القوي الاجتماعية والتيارات السياسية، وبالتصويت العام، الذي يستوي فيه صفوة الشعب، وعامة الناس. ولا مفر لمسلمي اليوم من الأخذ بحقوق الإنسان في العصر الحديث، وهي حقوق من مقاصد الدين الإسلامي، فلم يفرض هذا الدين نظاما وحيدا للحكم، ولا تصورا وحيدا للشوري. فمن المستحيل أن نزرع طرائق العصور الوسطي، في الحكم، في عصرنا الحديث، ومن المستحيل أن نعيد إلي عالمنا أوجها قبيحة للحكم، أوجه الحكم الاستبدادي الشمولي بنزوعاته الإمبراطورية، وسعيه للتوسع دائما، باسم تأمين الحدود، أو باسم الدعوة للدين، فالحدود لا نهاية لها عندئذ، والدعوة للدين، لا تكون بالتوسع، وإنما فقط، بالدعوة للدين بالتي هي أحسن، بخطاب العقل للعقول. إن منطق العصر، يفرض تداول الحاكمين للحكم وتجديد المحكومين للحاكمين، ويفرض تجدد أهل الشوري، كل بضع سنين، تحقيقا للعدل في الحكم، ودرءا للفساد في الأرض، ودفعا لشهوات الحاكمين، وأتباع الحاكمين، في السيطرة علي رقاب العباد، وسلب أموال العباد، ويفرض مراقبة تصرفات الحاكم والأتباع، ومحاسبة الحاكمين والأتباع، فالدولة هي كل الشعب، وليست الدولة هي الحكومة والحاكمين. «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»، وذلك هو درس القرآن الكريم، وبالله التوفيق