ثم بدأ التفكير فى كوبرى رمسيس كمشروع قومى، أثناء التجهيز تحقق انتصار مصر فى الحرب فتحول اسم المشروع إلى كوبرى السادس من أكتوبر، كانت مصر تحتفل بعبور قناة السويس بينما ميشيل باخوم يقف بين العمال و الخرسانة يفكر فى الطريقة التى سوف يعبر بها نهر النيل. عند التنفيذ كان باخوم اختيارا نموذجيا بخبرته فى الكبارى و بمعجزة الخرسانة سابقة الإجهاد التى تناسب دولة استنزفت معظم «دولاراتها» فى حرب أكتوبر فأصبح مستحيلا الاستعانة بشركات عالمية، قال باخوم وقتها بثقة: « مش عايزين حاجة من حد». بدأت المرحلة الأولى من منطقة المتحف الزراعى حتى شاطيء النيل الصغير، ثم وقف باخوم بين تلاميذه يشرح لهم كيف ستتم معجزة عبور النيل الكبير بأوسع شرفة ممكنة مستشرفا زحام الأجيال المقبلة وبأقل تكلفة متاحة و تصميم يسمح للسفن و المراكب بالعبور دون إزعاج. كان باخوم يعى جيدا المسئولية الأدبية فى أن يحمل المشروع اسم انتصار مصر الطازج الأهم فى تاريخها الحديث، و كانت الخطة ان يفضى الكوبرى إلى انتصارات آخرى حققها باخوم، كان يتابع العمل فوق النيل و عينه على استاد القاهرة الذى حقق فيه باخوم الانتصار ثلاثة مرات، الأولى عندما سمع عبد الناصر يقول فى افتتاح الاستاد «نفتتح هذا الملعب و نشعر بالحمد فى عيد الثورة الثامن لله الذى أعاننا على البناء و مكننا من الفرصة التى نحتفل فيها اليوم بهذا العمل الكبير»، الانتصار الثانى حدث بعد عدة سنوات عندما تحدث الجميع عن كارثة متوقعة فى الاستاد الذى يسع 80 ألفا بينما يحضر نهائى بطولة إفريقيا لتشجيع الإسماعيلى أكثر من 130 ألفا، لكن ثقة باخوم فى عمله انتصرت فى النهاية بعد أن تحمل هذا العدد الذى كان يقفز فرحا بفوز الإسماعيلى بالبطولة، وكان الانتصار الثالث عندما منحه ناصر وسام الجمهورية تقديرا لنجاحه. كانت قدرة باخوم على العمل خرافية، يبدأ يومه فى الثالثة صباحا و يستمر حتى التاسعة مساء ليغطى التزاماته الميدانية و الأكاديمية، كان مكافحا يحمل جينات الجد و الجدة اللذان حضرا إلى القاهرة سيرا على الاقدام من «طهطا» مع بداية القرن، كان جده يعمل خطاطا ينسخ الكتب، و فقد مورد رزقه بعد دخول و انتشار «المطبعة» وقرر عدم الاستلام للهزيمة، باخوم أيضا لم يألف يوما فكرة الاستسلام، عندما بدأ يضعف نظره اختار صديقا له يعمل فى الإذاعة و اتفق معه على أن يسجل له بصوته الكتب التى يحتاج لقرائتها فلم بتوقف عن البحث و المعرفة، لم يستسلم للنبرة الطائفية التى ظهرت فى أواخر ايام السادات و كانت ذروتها ان أستقبله متطرفو الجامعة بالتهديدات الطائفة مكتوبة بخط أنيق على سبورة المدرج ففكر وقتها فى الاستقالة لكنه تراجع وواجه، لم يستسلم لإغراءات نشر الأبحاث المهمة فى المجلات العالمية وأصر فى نشرها فى مجلة جامعة القاهرة حتى يجذب أنظار العالم إليها، لم يستسلم لإغراءات مادية يقتفى أثرها بعض أساتذة الجامعة فكان مشهورا بأنه يطبع المذكرات و الكتب على نفقته و يتركها عند «عم حسانين» ليراقب توزيعها على الطلبة مجانا، كان منحازا للطلبة، فى أحد الايام وجد مجموعة من الطلبة تقف خارج لجنة الإمتحان، فعرف أنهم قد حُرموا منه لعدم سداد المصاريف فتعهد لعميد الكلية أن يسددوها فيما بعد على ضمانته لكن العميد رفض فحرر له باخوم شيكا بمبلغ 1200 جنيها و سُمح للطلبة بدخول اللجان، لم يستسلم باخوم للراحة بعد نجاحات كان يرى مصر كلها تنعم بها مثل كوبرى أكتوبر و استاد القاهرة والمطار وفتش عن نجاحات جديدة فكان مبنى وزارة الخارجية و فندق الشيراتون ومصنع كيما اسوان ونفق أحمد حمدى و الكاتدرائية المرقسية فى العباسية، عرف أن القدر اختاره ليصبح معمارى منشآت ستصبح تفصيلة مهمة فى سيرة حياة و ذكريات سكان هذا البلد، فهم أنها شراكة للتاريخ، و بناء عليه لم يستسلم باخوم للتوصيف الأكاديمى فى جملة «أستاذ الإنشاءات» وكافح حتى تصبح توصيفا وطنيا إنسانيا يليق بشراكة كانت أعمق من الحجارة و الخرسانة، شراكة من دم و لحم و وجدان. ............................................... مصادر: حوار شخصى مع د.مراد ميشيل باخوم – مركز ميكروفيلم الأهرام.