على مشارف الثمانين. قرر كتابة وصيته.. لتؤول كل ممتلكاته من المنقولات العينية، وكل ما تبقى لديه من أموال فى حسابه، ودفتر التوفير، وريع إبداعاته لمؤسسة القديس مجدى يعقوب لعلاج الأطفال. كما أهدى ميدالياته، وأوسمته، وشهاداته التقديرية، التي حازها عبر مسيرته الروائية الحافلة إلى مكتبة الإسكندرية، للحفاظ عليها وتوثيقها، وهى «وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى» (1979)، و«جائزة الدولة التشجيعية» في القصة القصيرة (1979)، وشهادة وميدالية «الدولة التقديرية في الآداب» لعام 2013. كما تبرع بمكتبته العامرة إلى جمعية الشبان المسيحية بالمنيا مسقط رأسه. والروائى الكبير«مجيد طوبيا» من جيل الستينيات، واتسمت أعماله بالغرابة الواقعية والسخرية المبطنة، وينتمي إلي فئة المبدعين الذين اشتهرت أعمالهم أكثر من أسمائهم، فهو نادر الظهور في المنتديات والمؤتمرات والأماكن العامة, وقليل الكلام عن أعماله التي ترجم معظمها إلي عدة لغات, وكانت محورا لرسائل جامعية في مصر، وجامعات أوروبية مثل السوربون ونابولي وروما، وفي الجامعات الأمريكية أيضا. ومن أهم أعماله «تغريبة بنى حتحوت» التى اختيرت ضمن أفضل مائة رواية عربية، وأنتجت مسلسلة للإذاعة، و «دوائر عدم الإمكان»، و«الهؤلاء»، و«حكاية ريم الجميلة»، وغيرها. وتم تحويل بعض أعماله إلي أفلام سينمائية مثل فيلم «أبناء الصمت» الذي تم اختياره ضمن أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، و«حكاية من بلدنا»، و«قفص الحريم», و«صانع النجوم»، وشارك المخرج الراحل «محمد راضى» بشركة إنتاج «رابيا». إضافة إلى مجموعاته القصصية «فوستوك يصل إلي القمر»، و«خمس جرائد لم تقرأ»، و«الأيام التالية»، بجانب مقالاته فى الأهرام، ومن غير المعروف عنه، كتابته للأطفال، وله أعمال منها، «كشك الموسيقى»، و«مغامرات عجيبة» بريشة الكاتبة «سناء البيسى»، بجانب اهتمامه بالرسم. وحرصا على الكتابة، عاش حياته راهب مخلصا لفنه، وعشق السفر. وحوارنا معه اليوم مقاربة لعالمه، ومحاولة للتعرف على ما يدور بخاطره الآن. وسر كتابة وصيته والتبرع بممتلكاته. وتم في منزله بمصر الجديدة بحضور صديقه الروائى فتحى سليمان الذى يعتمد عليه فى كثير من شئونه الخاصة. وأفاض معنا فى الحديث عن ذكرياته مع كبار الكتاب والفنانين، وعن روايته الجديدة «أوراق العذراء» التى بدأ كتابتها عام 1968 ولم يكملها إلا قبل أيام من لقائنا. ما سبب كتابة وصيتك والتبرع بممتلكاتك الشخصية؟ أوصيت بأن تؤول كل ممتلكاتي، وريع إبداعاتي، إلى مؤسسة القديس مجدى يعقوب، وأهديت شهادات التقدير والميداليات التى حصلت عليها إلى مكتبة الإسكندرية لتوثيقها والحفاظ عليها، أما المكتبة فتبرعت بها لجمعية الشبان المسيحية بالمنيا التى تربيت فيها، لكن بعد وفاتى لأنني لا أستطيع أن أعيش بدونها، لأني أعيش وحيدا وليس لى ورثة. وما آخر إبداعاتك؟ اتفقت مع ثلاثة دور نشر على طباعة بعض أعمالى السابقة، منها «الهؤلاء» الذى صدر مؤخرا، و«عذراء الغروب» إضافة إلى مجموعتين قصصيتين، و«تغريبة بنى حتحوت» بأجزائها الأربعة، وأثبت فى العقود أن ريع هذه الأعمال يؤول مباشرة إلى مؤسسة مجدى يعقوب لعلاج الأطفال كصدقة جارية على روحى بعد الرحيل. والإبداعات الجديدة؟ انتهيت مؤخرا من رواية بعنوان «أوراق العذراء» التى بدأت كتابتها عام 1968 وكنت فقدت أوراقها، ووجدتها قبل سبع سنوات، وبدأت باستكمالها، وتُقرأ الآن فى اتحاد الكتاب وتعد للنشر وربما تصدر فى معرض الكتاب المقبل، وخلال الأيام القليلة المقبلة سيتم الإعداد لفيلم وثائقي عن حياتى للمخرج حلمى عبد المجيد، وسيناريو القاص شريف عبد المجيد. ما موضوع رواية «أوراق العذراء» هذا الذي ظل يلح عليك قرابة 60 سنة؟ بعد النكسة ظهرت أقاويل كثيرة حول ظهور السيدة مريم العذراء فى منطقة الزيتون، وذهبت لمشاهدتها بصحبة صحفية من الأهرام، وبالطبع لم تظهر، وألح على السؤال لماذا ينتظر المصريون المعجزات فى أوقات الأزمات؟ ونصحني هذه الصحفية بعدم إبداء الرأي فى الأشخاص الذين جاءوا لمشاهدة السيدة مريم لحسن نيتهم لأنهم يترقبون أملا جميلا بأن تطبطب عليهم السماء بعد النكسة، خاصة أن النكسة كانت قاسية والطبطبة دائما تأتى من الأم فاخترعوا ظهور السيدة مريم. تخرجت من كلية المعلمين، وحصلت على دبلوم في السيناريو، ثم دبلوم إخراج سينمائي وهجرت كل هذا إلى الكتابة.. لماذا؟ بعد تخرجى من كلية المعلمين عملت مدرسا للرياضيات فى مدرسة منوف وكان زميلى رأفت الميهى مدرسا للغة الإنجليزية، وفى تلك الفترة كتبت رواية «حكاية من بلدنا»، ثم تركت التدريس وعملت في وزارة الثقافة بالقاهرة، وبدأت التفرغ للكتابة لأن المصريين بطبيعتهم يحبون الحكي، وأنا أحكي في كتاباتى، ولا أسرد بالمعنى الأكاديمى، والكتابة عندي ليست حرفة ولا مهنة لكنها رسالة. وهل أفادتك دراساتك فى الإبداع؟ قطعا استفدت من كل دراساتى لأنني تعلمت منها التركيز على زاوية محددة فيأتي العمل مكثفا كما يجب أن يكون. كيف تأتيك فكرة العمل؟ الفكرة تأتى بالتدريج حتى ينضج العمل فى ذهنى، وفجأة أمسك القلم وأبدأ الكتابة، فليس هناك تخطيط ولا موعد للكتابة لأن المبدع فى هذه اللحظة يكون فى حالة نشوة، وأنا كتبت رواية «دوائر عدم الإمكان» على قهوة بلدى فى جلسة واحدة، وفى أثناء الكتابة لم أشعر بما يدور حولى. استلهمت التراث في روايتك «تغريبة بنى حتحوت» بحثا عن أسئلة الحاضر، فهل على المبدع أن يقرأ التاريخ جيدا، والسير الشعبية وغيرها من الفنون؟ قطعا.. فالمبدع لا يملك غير هذا، وبالفطرة وليس ادعاء، وأنا كتبت «تغريبة بني حتحوت» على غرار «تغريبة بنى هلال» إحدى السير الشعبية العربية، والقارئ فيها يعيش مع تاريخ مصر قبل وفى أثناء الحملة الفرنسية، ويطوف فيها مع بنى حتحوت فى ربوع المحروسة من شمالها إلى جنوبها. ما الذى قصدته بهذه الرواية؟ أرت أن يتعرف الشباب على أصله وحضارته العريقة ويتمسكوا بتاريخ أجدادهم ويفتخروا به ويتخذوهم قدوة. كانت روايتك «الهؤلاء» صرخة بوجه التسلط واللا إنسانية، وغياب الحريات، فمن هم «الهؤلاء»؟ «الهؤلاء» هم» كاتبو التقارير السرية الذين كانوا منتشرين فى أوساط المثقفين فترة الستينيات، وكل من يشتبه فيه يشار إليه بالهؤلاء ليصمت المتحدثين. لماذا عرفت اسم الإشارة؟ انتصارا لمخيلة الكتابة، وتعريف اسم الإشارة عوضا عن الشخص الغامض. لك كتاب بعنوان طريف هو «التاريخ العريق للحمير»، عبارة عن لوحات باسمة من الأدب الساخر، وخلاصة فلسفتك في الثقافة، والسياسة، والكياسة، والرياضة، والفنون، والجنون، وجشع الجيوب والبطون، فلما اتجهت لهذا اللون من الأدب؟ الموضوع هو الذى يفرض شكله وبعضها لا يكتب إلا بالسخرية، والمصرى بطبيعته ساخر ويحب النكتة، خاصة فى الأزمات، وهو نوع من الترويح عن النفس، والمثل يقول «شر البلية ما يضحك»، وانتصارا للحمار لأنه يقوم بعمله دون تذمر أو معارضة. من أقرب الأصدقاء إليك؟ أصدقائي كانوا من كبار الأدباء والفنانين، رحمة الله عليهم، منهم توفيق الحكيم، وكنت أذهب له فى الأهرام بمكتبه بالدور السادس، ولنا ذكريات كثيرة، أذكر منها وفاة ابنه إسماعيل عن 27 سنة، وكان صدمة كبيرة له أخذته فى حضنى وبكى. أما نجيب محفوظ فكان ينادينى بكلمة «يا زُمل» خاصة يوم الجمعة فى ندوة ريش، كوني زميله فى الكتابة، وكان يسكن على النيل وأمام منزله كان يقطن محمد عفيفى فى عوامته، وكنا نجتمع فيها لقضاء وقت جميل، وهى العوامة التى كتب فيها محفوظ رائعته «ثرثرة على النيل»، ولم أنس صديقى «مرسى سعد الدين» شقيق الملحن بليغ حمدى، وتعرفت عليه فى أثناء عملى بوزارة الثقافة، إضافة لعدد من الفنانين، مثل أحمد زكى، والسيد راضى، وآخر الراحلين من أبناء الصمت المخرج محمد راضى، ومن الحاليين الصحفى مصطفى عبد الله ود. عبد الله سرور ووزير الثقافة الأسبق الإنسان صابر عرب. وماذا عن مقالاتك في الأهرام؟ كنت أكتب مقالة كل يوم الجمعة إلى بداية الألفية الثالثة، وأفكر الآن فى جمعها فى كتاب. هل أنت راض عن رحلتك الإبداعية؟ لا أمسك القلم إلا فى الوقت الذى يجب أن أمسكه فيه، وإلى الآن لا أعتبر الكتابة مهنة، وأنا راض عن كل ما كتبته وقدمته فى حياتى، وأعتقد أننى تركت إبداعا أدبيا يشفع لى فى الذاكرة العربية.