بورما ذلك البلد الجميل المسالم, الذي خرج من جعبة الإحتلال البريطاني ليكون نموذجا للتعايش السلمي والحياة الديمقراطية, قد إختفي! في أوائل الستينيات تعرفت علي جمال البورمي, أو هكذا كنا نسميه. كانت بورما مثالا للنجاح الإقتصادي والسياسي وهي تعتمد علي صادرات الأرز والقصدير والأخشاب والأحجار الكريمة, وكان مستوي المعيشة يفوق بشكل ملحوظ مستوي المعيشة في الهند المجاورة, وكانت تستمع بحياة برلمانية ناجحة تحت قيادة الرئيس أو نو, صديق عبدا لناصر.جمال كان من الأقلية المسلمة في بورما, وهي أقلية مزدهرة ساعدتها أصولها الأثنية المختلفة, وعلاقاتها الممتدة خارج بورما علي العمل في مجالات التجارة والخدمات, وكان جمال يتحدث, الي جانب لغة بلده والإنجليزية, اللغة الأوردية المتداولة بين مسلمي شبه القارة الهندية, وكان يساعدنا في متابعة الأفلام الهندية التي غزت السوق المصري. قضي جمال وقتا جميلا في مصر أثناء دراسته لأصول الدين. وتعرف علي زملاء من أركان الدنيا الأربعة في جامعة الأزهر, وعاد الي بلاده في منتصف الستينيات متوقعا مكانا مرموقا. ولكن سرعان ماتبدلت الأحوال, مع استيلاء العسكر علي السلطة وفرض نظام قمعي أطاح بالحياة الديمقراطية, وفيه سيطرت الدولة علي كل سبل المعيشة في البلاد مع فرض العزلة الخارجية عليها, بل وحتي تغيير اسمها التاريخي من بورما الي ميانمار. وتراجع المستوي الاقتصادي وصادرات البلاد. وراح نظام الحكم القمعي يخفي فشله بتأليب المجتمع علي بعضه البعض. وأصبح المسلمون وباقي الأقليات لقمة سائغة لحملات الكراهية التي تصل أحيانا الي القتل والتعذيب والطرد الجماعي إلي الدول المجاورة. بدأت أخبار جمال تتقطع, ومضت سنوات لم أسمع فيها شئ عنه, وبعد ما يقرب من عشرين عاما ظهر مرة أخري, إذ بلغني بعض أخباره من صديق يعمل في السفارة المصرية هناك..وجلب الصديق صورة زيتية جميلة لتقطيع الأشجار وخطاب كتب بخط عربي جميل. الخطاب يحمل أخبارا حزينة, لم يجد جمال فرصة للعمل, بل ورفد أصدقاءه المسلمين من الخدمة العامة ومن صفوف الجيش. حملات الكراهية تزايدت ضدهم, وهم يتهمون بالرغم من أنهم أبناء بورما منذ فترة طويلة, ويتكلمون اللغة, ويلبسون نفس الزي, ولايعرفون وطنا آخر, بأنهم أجانب لا يوثق في ولائهم.لحسن حظه استخدم معرفته الممتازة باللغة العربية في مجال الترجمة ولقد أصبح لبلاده علاقات هامة مع الدول العربية بعد حرب أكتوبر وارتفاع أسعار النفط. هو مع ذلك قلق علي أولاده, ويسأل عن إمكانية أن يستكملوا دراستهم في القاهرة. لم يستمر الاتصال مع جمال, فالخطابات التي أرسلتها اليه لم يرد عليها, ولعلها لم تصله. ولم تكن الأخبار الي تصل من هناك مبشرة, حيث تحولت بلاده إلي سجن كبير, ولم يأبه العسكر بالرأي العام الدولي, وسمعنا عن مجازر أخري وطرد ما يقرب من ربع مليون مسلم الي بنجلاديش المجاورة عام 1978 ومرة أخري عام 1991-.1992 هذه الأيام استبشرنا خيرا, ذلك أن النظام البورمي بدأ في التغير, وسمح بانتخابات نصف حرة, وأطلق سراح قائدة المعارضة السيدة أونج سو تشي,وسمح لها بالسفر الي الخارج منذ شهر لتتلقي جائزة نوبل للسلام التي حصلت عليها قبل عشرين عاما وهي قيد الإقامة الجبرية في منزلها. وأعلنت السيدة هيلاري كلينتون أن ميانمار مفتوحة للعمل والاستثمار الغربي, وقامت بزيارتها في نهاية العام الماضي. مع ذلك عادت الأخبار المفزعة عن اضطهاد المسلمين تعود الي قمة الأخبار, هذه المرة هناك حوادث عنف شارك فيها رهبان بوذيون, وهم الذين يتصفون بالسلم, وتظاهروا في السابق في مقاومة النظام الديكتاتوري. الحوادث يبدو أن بعضها ملفقة, وتشبه حوادث أخري استخدمت في إشعال الفتنة الطائفية في بلدان أخري: إشاعة باغتصاب فتاة بوذية بواسطة شباب مسلمين, كهان بوذيون لا يدفعون ثمن مأكولات قدمتها بائعة مسلمة... والنتيجة شغب عارم, وحرق المنازل وقتل مئآت, وتشريد الألاف. صور القتلي علي ضفاف النهر تقطع القلوب, والبوليس يبدو أنه لايتدخل أولا يرغب في التدخل. في ذات الوقت يستمر تدفق اللاجئين عبرالنهر الي بنجلاديش المزدحمة, والتي أعلنت أنها لن تقبل المزيد. الصورة التي أرسلها جمال ما زالت تزين غرفة الجلوس في بيتي. أنظر الي الهدوء الجميل والسلام المبدع علي ضفاف النهر, وأفتقده!