فى مشهد إنسانى شديد العمق والوطنية دخل الجيش والشرطة فى حرب لينقذوا حياة ضابط كان فى عداد الأموات. وبعد صراع وبطولة نادرة استطاعوا أن يخرجوا الضابط من أفواه وحوش هجمت على أوطاننا لتنشر الموت. ولكن كان هؤلاء الأبطال ينفذون خطة الحياة ليقفوا حائلاً بين الموت وبين حياة إنسان، ويقفوا كما يقفون أيضاً فى كل يوم يحمون الوطن بصدورهم ليستقبلوا هم الموت ليعيش آخرون، إنهم ينشرون الحياة فى مواجهة الموت. وللموت والحياة فلسفة أعمق من المشهد المادي، فالموت والحياة وراء كل باب ندخله، وراء كل فكرة تدخلنا، وراء كل إحساس فينا، وراء كل خطوة نخطوها، وراء كل دقيقة وثانية نحياها. الموت والحياة داخلنا، فإما أن نعيش للحياة أو نعيش للموت. الحياة ليست فى استمرار خفقات القلب، أو امتلاء المعدة، أو ضحكات الأفواه، أو لذات الجسد، ثم بعد هذا لا شيء سوى الموت. إنما الحياة هى خلقة الله وبصمة وجوده فى هذا الكون، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالنور والخير والحق، فكل من يحيا فى الحقيقة لابد أن يتمم تلك الإرادة. فالحياة هى إيجابية الوجود، والموت هو سلبية الوجود، هو فعل الشر، هو فعل الظلمة، هو كل تصرف ضد الحياة للنفس أو للآخرين. الموت فى حقيقته هو تعرى الإنسان من إنسانيته وحياته، الموت هو كل ما يسرق العمر والفرح والسعادة والسلام للنفس أو للآخرين، الموت سكين يذبح الحياة كما يذبح الليل نور الشمس كل يوم ونراها تختنق أمام عيوننا فى غروب أعزل بلا قوة لمقاومة الليل، ونراها تبكى عند الغروب حين لا يمد أحد يده لينقذها من حالة الموت المؤقت إلى أن تستعيد عافيتها عند الفجر وتقهر الليل وتعود للحياة فيكون اليوم الجديد. الموت هو قلوب الغادرين، الدمويين، الهمجيين الذين ينشرون الكراهية ليتحول العالم إلى مقبرة كبيرة يتحكم فيها هؤلاء الموتى فى ثياب أشبه بالأكفان، ولينشروا رعبا فى قلوب من فيهم الحياة وهم مستمتعون بصرخات المذبوحين ونواح المستضعفين. الموت والحياة هى قضية حرية الإنسان ومأساته معاً. الموت هو سلوك الإنسان المتسلط الذى يحاول أن يقهر الآخر ويسلبه حريته ليترك فيه آثاراً من جروح تنزف طول الزمن ويشعر بالموت مع كل شعور بالعبودية والخوف. الموت هو سلوك الوالدين الذين يقتلون الحياة فى أولادهم حين يقهروهم ويدمرون نفسيتهم فتصير الأيدى التى تحتضن هى نفسها مخالب الوحش الذى يجرح، وتداس زهور العمر ليتركوا أولاداً يحملون الموت كمشاعر يومية فى حياتهم. الموت هو اختيار المتطرفين والإرهابيين الذين يحملون فكراً متطرفاً فى عقولهم وسلاحاً فى أيديهم يهددون به الشعوب إما أن تموت فيهم الإنسانية بخضوعهم لهم أو تموت فيهم الحياة، وكلاهما موت ودمار. الموت هو خطة الشيطان لتغيير الملامح البشرية وطمس بصمة الحياة فى نفوس صنعها الله لتحب وتبني، أما هو فيدخل ليشوه الإنسانية لتكره وتدمر، أو يسرق العمق الإنسانى ليحول الحياة إلى مجرد أيام هزلية وسطحية ويكون الموت وفقدان العمق والهدف. فى طريق الموت والحياة نسير جميعنا فى هذه الأرض، ما بين النور والظلمة، ما بين الوجود والعدم، ما بين إدراك الحقيقة والجهل، ما بين الطين والنقاوة، ما بين الأرض والسماء فى هذا الطريق. الموت مرض ينشره مرضى آخرون. ندخل الحياة أبرياء، ثم ندرك الوجود من خلال آخرين من خلال العائلة ورجال الدين، والمدرسة. فماذا لو كان هؤلاء مرضى ويحملون الموت؟ يصير المجتمع كله أمواتا ولا ينقذ البشرية إلا نور الفجر ليدخل إلى كل شيء. وهذه مسئولية الجميع نشر النور والحياة، مسئولية البيوت والعائلات أن يكون كل ما فى جوانب البيت حياة ونورا، فأحضان الآباء حياة، وتعاليم الدين والقيم والحب والخير نور، والمدارس والجامعات لابد أن تعمل لبناء الحياة واستنارة العقول لا لتخريبها وظلمة النفوس. فما يفيدنا إذا التزم المدرس بالمنهج العلمى ولم يلتزم بمنهج الحياة السوية والقيم والحب؟ وماذا يفيدنا إذا تخرج فى الجامعة شاب يحمل أعلى الشهادات العلمية وهو لا يحمل أدنى قيمة ويفتقر إلى الأدب أو يخرج للمجتمع وهو يريد أن يدمر أو يكره الآخرين. والحياة والنور مسئولية رجال الدين الذين لابد أن يدركوا أنه لا يوجد تدين دون حب، ولا يوجد علاقة مع الله مع أدنى صور الكراهية. وكيف سيرفع أحد يديه للصلاة وهى ملوثة بالدماء؟ أو كيف يُكفر ويدمر أخاه الإنسان ثم يرفع يديه بالدعاء؟ والحياة والنور مسئولية الدولة بكامل أجهزتها فحين ينتشر الجمال والنظافة فى الشوارع نشعر بالحياة، وحين نسمع الموسيقى والألحان ونرى الفن والأبداع فى كل مكان نشعر بالحياة، بينما القبح بكل أشكاله ينشر الموت. فالحياة هى العدل فى القضاء، ورعاية المرضي، ورفع المعاناة عن الفقراء والمهمشين، الحياة فى نشر ثقافة الحياة وارتقاء الفكر. بينما الجهل والمرض والظلم والقهر بكل أشكاله هى الموت. فنحن مخلوقات تحمل بصمة الحياة من الله، نحمل فى داخلنا النور والحق، فإذا تشوهت بصمة الله فينا نتحول إلى كيانات عدمية، وأسماء على رمال، وقصص تكتب فى الليالى وتمحى بندى الفجر. ففى زمن بلا روح، ماتت فيه أمانينا، ضاعت الأحلام من أيادينا، سقطت أوراق الورد والياسمين، حتى ملامحنا وحروف أسامينا، خيالات أصبحنا، ومصابيحنا لم يعد لها نور يهدينا، نسمات الفجر لم تعد تنعشنا، وصمت الليل خيم على ليالينا، ففى زمن تشوهت فيه حقائقنا، أبحث عن حق يهدينا، أبحث عن وتر أعزف عليه ألحانا تشجينا، أبحث عن شيء يشبعنا، عن ماء يروينا، أبحث عن أصحاب فى مديتنا، عن بيت لايزال يحفظ قصتنا، علنا نتذكر تاريخ أهالينا. كاهن كنيسة المغارة الشهيرة بأبى سرجة الأثرية لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس