"الوطنية للانتخابات": 2826 مرشحا لمجلس النواب 2025    شباب قنا يدشنون «بازاري» لإحياء الصناعات التراثية واليدوية    عمرو موسى: خطر التهجير مازال قائما ويجب أن نكون حذرين للغاية    متحدث إيجل نوار: لا نخشى الأهلي.. ونحب مواجهة الفرق الكبيرة    "مصلحة الدمغة" تعتمد أول معمل X-RAY في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط لفحص وتحليل الذهب    Firefox يضيف محرك الإجابة الذكى Perplexity كخيار بحث جديد    تفاصيل مسلسل حلم أشرف الحلقة 18.. أحداث مثيرة وموعد العرض والقنوات الناقلة    إيناس الدغيدي تقطع شهر العسل رفقة زوجها.. والسبب غريب    محمد العمروسي يخرج عن صمته ويرد على طليقته بشأن تخليه عن أولاده    خبير تربوي يكشف أسباب التعدي على المعلمين وكيفية معالجته    ترامب يهدد بنقل مباريات كأس العالم من مدن أمريكية «غير آمنة»    «لبيب» يمنح «فيريرا» فرصة أخيرة مع الزمالك    تعرف على موعد صرف مرتبات شهر نوفمبر 2025    حسين هريدي: القمة المصرية السودانية بحثت جهود وقف حرب السودان والتحضير لاجتماع واشنطن    تركيب القضبان والفلنكات بالخط الأول من شبكة القطار الكهربائى السريع..فيديو    رئيس هيئة الدواء: مصر تمتلك منظومة رقابية متكاملة تغطي صناعة وتوزيع الدواء    فتح باب الترشح للعمل بلجان مراقبة امتحانات الدبلومات الفنية بالمنيا والمحافظات    ميسرة بكور: أوروبا تسعى لاستقلال أمنى عن واشنطن فى ظل التباعد عبر الأطلسى    بعد شائعات اعتقاله.. ياسر أبو شباب لقناة 14 العبرية: لسنا خائفين من حماس    بينها «فوكس نيوز».. رفض واسع من مؤسسات إخبارية لقرارات وزارة الحرب الأمريكية    محلل سياسي من غزة لحديث القاهرة: شبح الحرب الأهلية يخيف الشارع وحماس تفرض سيطرتها    المتحف القومي للحضارة المصرية يحتفي باليوم العالمي للتراث الثقافي غير المادي بفعالية «حضارة وشعوب»    «نكديين ومش بيحبوا السهر».. 4 أبراج تفضل الهدوء على الخروج في عطلة نهاية الأسبوع    قصور الثقافة بالغربية تحتفل باليوم العالمي للمرأة الريفية    هل يجوز شراء شقة بنظام التمويل العقاري بقصد الاستثمار؟.. أمين الفتوى يجيب    هل الألعاب الإلكترونية التي تدر أرباحًا مالية حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يوضح    رئيس هيئة الدواء ل"dmc": وقف بيع المضادات الحيوية المحفوظة للاستخدام الطارئ إلا بالمستشفيات    الصحة العالمية: نموذج برنامج التطعيم الإجباري فى مصر يحُتذى به على مستوى العالم    «تجهز في 5 دقايق».. حضري طبق «السبانخ بالكريمة» وتمتتعي بالمذاق الشتوي (الطريقة والخطوات)    برشلونة يعلن تمديد عقد دي يونج حتى 2029    انطلاق الدورة السادسة عشر من مهرجان المسرح العربى من 10 ل 16 يناير    بعد دعوته للانعقاد.. تعرف على الضوابط التنظيمية للجلسة الافتتاحية لمجلس الشيوخ    كرة يد - إلى ربع النهائي.. سيدات الأهلي تكتسحن اتحاد النواصر في بطولة إفريقيا    حازم هلال: فخور بالانضمام لقائمة الخطيب.. ونسعى لاستكمال مسيرة الإنجازات    محافظ جنوب سيناء يبحث آليات البدء في تنفيذ مشروع محطة إنتاج الطاقة والهيدروجين الأخضر بمدينة الطور    بقبلة على يده.. رينارد يوجه رسالة قوية عن موهبة المنتخب السعودي    من قلب غزة: تحيا مصر.. ويحيا السيسى    جامعة قناة السويس تنفذ برنامجًا تدريبيًا توعويًا بمدرسة الجلاء الابتدائية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15-10-2025 في محافظة الأقصر    صحة المنوفية تواصل استعداداتها للاعتماد من هيئة الاعتماد والرقابة    شفاء المرضى أهم من الشهرة العالمية    وزير العمل يلتقي رئيس غرفة تجارة وصناعة قطر لتعزيز التعاون بالملفات المشتركة    شريف حلمي: الأكاديمية العربية شريك أساسي في إعداد كوادر مشروع الضبعة النووية    رفع كفاءة المنشآت لخدمة الشباب..محافظ الجيزة يتفقد مركز شباب المناجم بالواحات البحرية    وزير المالية: تحسن أداء الاقتصاد المصرى خلال الربع الأول من 2025-2026    إيفاد: الحلول القائمة على الطبيعة تحسن رطوبة التربة وتزيد كفاءة أنظمة الري    متحدث الحكومة: تمويل 128 ألف مشروع بالمحافظات الحدودية ب4.9 مليار جنيه    سلوك عدواني مرفوض.. «خطورة التنمر وآثاره» في ندوة توعوية ل«الأوقاف» بجامعة مطروح    حكم تشغيل القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت قبل الفجر والجمعة    الجامع الأزهر يقرر مد فترة التقديم لمسابقة بنك فيصل لذوى الهمم حتى 20 أكتوبر الجارى    القومي لحقوق الإنسان يشارك في مؤتمر الحوكمة ب كيب تاون    ب 20 مليون جنيه.. «الداخلية» توجه ضربات أمنية ل«مافيا الاتجار بالدولار» في المحافظات    عاجل- مجلس الوزراء يشيد باتفاق شرم الشيخ للسلام ويؤكد دعم مصر لمسار التسوية في الشرق الأوسط    الكرملين: بوتين سيجري محادثات مع الرئيس السوري اليوم    أسرة سوزي الأردنية تساندها قبل بدء ثاني جلسات محاكمتها في بث فيديوهات خادشة    رغم منع دخول أعلام فلسطين.. إيطاليا تهزم إسرائيل وتنهي فرصها في التأهل    رمضان السيد: ظهور أسامة نبيه في هذا التوقيت كان غير موفقًا    عمقها 30 مترًا.. وفاة 3 شباب انهارت عليهم حفرة خلال التنقيب عن الآثار بالفيوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
تأسيس «فصول» 1
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 10 - 2017

أذكر أنه ما بين شهرى أكتوبر وديسمبر عام 1976 نشرت لى مجلة «الكاتب» المصرية بحثا عن «نقد الشعر عند محمد مندور». وكان هذا البحث أول عمل لى أذكره فيما نسميه ب «النقد الشارح»، وقد تعودت على الذهاب إلى مقر مجلة «الكاتب»، التى كانت تقع على كورنيش النيل فى المبنى الذى تحتله الهيئة المصرية العامة للكتاب،
برئاسة أستاذتى الدكتورة سهير القلماوي. وهى الهيئة التى كانت تتولى إصدار مجلة «الكاتب»، بعد أن انضمت إلى مجلات الهيئة المصرية العامة للكتاب، فى عهد الدكتورة سهير القلماوي، وتولى رئاسة تحريرها فى ذلك الوقت الشاعر الكبير والصديق العزيز الأستاذ صلاح عبد الصبور، عليه رحمة الله. وكان من الطبيعى أن تتعدد جلساتى مع صلاح عبد الصبور الذى تعمقت صلتى به، بعد أن نشرت مجلة «المجلة» (التى كان يرأس تحريرها المرحوم يحيى حقي) بحثا لى عن «تطور الوزن والإيقاع فى شعر صلاح عبد الصبور» فى أواخر الستينيات. ومن الموضوعات التى دار النقاش بينى وبين صلاح عبد الصبور.
...............................................
فى مقر مجلة «الكاتب»، حاجة مصر إلى مجلة نقدية متخصصة تتولى نشر الأبحاث الأدبية الجادة، وتكون على غرار المجلات الأوربية والأمريكية التى كنا نسمع عنها فى مجالات الدراسات الأدبية والنقد الأدبي. وانتهت علاقتى بمجلة «الكاتب»، بعد أن نشرت فيها، وفى ظل رئاسة صلاح عبد الصبور لهيئة تحريرها، عددا من المقالات المتتابعة، ولن أنسى رحابة صدر صلاح عبد الصبور فى تقبل الاختلاف معه أو نقده أو نقد حتى ما يكتب فى مجلة هو رئيس تحريرها، ولا أدل على ذلك من مقالتى «حالة وخم شعري» (عام 1975) التى وافق على نشرها لى فى المجلة التى يرأس تحريرها، رغم أن هذا المقال كان يحوى نقدا مباشرا له ولأحمد حجازى على السواء. ومرت الأيام وأبعدتنى أشغالى الجامعية عن صلاح عبد الصبور إلى أن أتيحت لى فرصة الذهاب إلى الولايات المتحدة فى عام 1977، على النحو الذى أفضت فى الحديث عنه ضمن كتابى «بعيدا عن مصر»، وعدت من الولايات المتحدة بعد أن عرفت على نحو دقيق اتجاهات النقد الأدبى الأحدث واكتمل لى منهجى الأدبى الخاص والقدرة النقدية فى مجالات متعددة، منها بالتأكيد مجالات الأدب الشارح أو «الميتانقد» الذى أصدرت فيه أكثر من كتاب؛ نتيجة إحساسى بحاجتنا إليه، فقد كنت، ولا أزال، أرى أن النقد الأدبى لا ينبغى أن يكون مجرد كتابات تطبيقية بلا منهج، وإنما ينبغى أن يظل واعيا بدوره من حيث هو علم من العلوم الإنسانية من ناحية، ومن حيث هو كيان معرفى مستقل له مناهجه وأساليبه المتنوعة من ناحية ثانية، فضلا عن مطامحه المشروعة نحو أقصى درجات الموضوعية من ناحية أخيرة.
افكار تعلمتها
وقد كان لبعض الأفكار والمبادئ التى تعلمتها فى الولايات المتحدة على نحو منهجى جانب كبير فى النقاشات التى كانت تدور بينى وبين صديقى صلاح عبد الصبور فى لقاءاتنا الأسبوعية بمكتب المرحوم فاروق خورشيد الذى كان بمنزلة المحرك الأساسى والدينامو الفعال للجمعية الأدبية المصرية. وكان من الطبيعى أن يعود صلاح عبد الصبور إلى الحديث عن حاجتنا إلى مجلة ثقافية تكون بمثابة المدفعية الثقيلة للنقد الأدبي. وكان هذا الحديث يشترك فيه صديقنا وأستاذى عز الدين إسماعيل (رحمه الله) بوصفه عضوا مؤسسا من أعضاء الجمعية الأدبية المصرية التى كنت واحدا من أعضائها الشباب إلى جانب الدكتور نصار عبد الله وأحمد مرسى والمرحوم أمل دنقل. وأذكر أننى أعطيت صلاح عبد الصبور نسختى من مجلة «التاريخ الأدبى الجديد «The new literary history التى كنت قد اشتريت عددا من إصداراتها فى الولايات المتحدة ومعها مجلات أخري، وهو الأمر الذى زاد من حماسة صلاح عبد الصبور، خصوصا بعد أن تولى رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب. وكان من الطبيعى أن يطالبنا بالتعاون معه فى إصدار حلمه القديم، وهو الحلم الذى طلب من زميله القديم فى قسم اللغة العربية فى جامعة القاهرة عز الدين إسماعيل أن يتولى تحقيقه مع زميله الأحدث الذى يشترك معه فى التلمذة على الأستاذة الجليلة نفسها: سهير القلماوي، رحمها الله. وبالفعل اتفقنا على موعد للنقاش فى مشروع إصدار المجلة النقدية الجديدة التى ينبغى أن تكون بمثابة «مدفعية ثقيلة للنقد الأدبي». وكان ذلك فى ظل حكم الرئيس محمد أنور السادات، وجاء الاجتماع الأول ورأيت برفقة الدكتور عز الدين إسماعيل صديق العمر الدكتور صلاح فضل الذى كنت قد رأيته من قبل فى المكسيك، وقد أهدانى كتابه الأول عن النظرية البنائية فى النقد الأدبي، واعتبرته منذ ذلك الوقت واحدا من الطليعة الأدبية التى انتسب إليها، والتى كان يرعاها ويبارك خطواتها الجسورة كل من صلاح عبد الصبور وعز الدين إسماعيل وبقية أعضاء الجمعية الأدبية المصرية التى كانت تضم أحمد كمال زكى وعبد الرحمن فهمى وعبد القادر القط وحسين نصار وغيرهم من الأساتذة والأصدقاء الذين تعودوا على الالتقاء، سواء فى مقر الجمعية القديم بشارع قولة فى عابدين أو فى شارع الجمهورية فى جزء ملحق بأستديو محمد الطوخي، وظل نشاط هذه الجمعية الأدبية مستمرا إلى أن تضاءلت مواردها المالية، فاكتفينا باللقاء الأسبوعى فى مكتب فاروق خورشيد فى باب اللوق. وفى هذا المكتب اكتملت فكرة المجلة التى أرادها صلاح عبد الصبور أن تكون «مدفعية ثقيلة فى النقد الأدبي» وأردتها أنا أن تكون فى وزن وتأثير المجلة الفصلية الأمريكية، وأذكر أننا اجتمعنا فى أحد الكازينوهات المطلة على النيل، لكى نتناقش فى إصدار هذه المجلة، وكنا أربعة: صلاح عبد الصبور باعتباره رئيسا للهيئة المصرية العامة للكتاب التى سوف تتولى إصدار وتمويل المجلة، وعز الدين إسماعيل الذى سوف يتولى رئاسة التحرير، وصلاح فضل وأنا اللذين يتوليان منصب نائبى رئيس التحرير. وأذكر جيدا أننا ظللنا طويلا نبحث للمجلة عن اسم، وتذكرنا مجلة «الفصول» التى كان يصدرها محمد زكى عبد القادر وعشرات غيرها من المجلات والصحف. كما استرجعنا أسماء دوريات عالمية كثيرة نعرفها، ولكن تعلق عز الدين إسماعيل بالصفة «فصلية» Periodical، وهى تعنى فصلية، وقال: ولماذا لا نسمى المجلة «فصول»، خصوصا أنها ستكون فصلية وليس هناك غيرها يحمل هذا الاسم فى مجال الأدب أو غير الأدب، وعلى الفور وافقنا جميعا على هذه التسمية وأمضينا بقية الجلسة فى مناقشة التفاصيل وانصرفنا فى النهاية على أن نلتقى مرة أخرى فى مكتب صلاح عبد الصبور فى الهيئة المصرية العامة للكتاب التى لا تزال تقع على كورنيش النيل، ووجدنا أن صلاح خصص لنا مقرا جميلا يطل على النيل مباشرة فى الدور الثانى من الهيئة، وفرحنا بهذا المقر الذى كان يضم صالة كبيرة اعتبرناها صالة التحرير، وبها مكتب كبير يطل على النيل مباشرة لرئيس التحرير، وفى مواجهته بقية المكاتب، ومنها مكاتب المحررين والمصححين، وكان بجوار الصالة غرفة صغيرة جعلناها للسكرتارية. وبدأنا جلسات العمل فى المجلة واستقر الأمر على خطة السَّنة الأولى التى سوف نصدر فيها أربعة أعداد، قررنا أن يكون العدد الأول عن «مشكلات التراث»، والعدد الثانى عن «مناهج النقد الأدبى المعاصر»، على أن ينقسم إلى قسمين بحيث يشملان العددين الثانى والثالث لضم أكبر عدد من مناهج النقد الأدبى المعاصر، ويبقى العدد الرابع الذى قررنا أن نخصصه لقضايا الشعر العربي، على أساس أن هذه القضايا سوف تضعنا فى مواجهة الجوانب التطبيقية لكل تيارات النقد العربى المعاصر، وعلى أساس أنها القضايا التى لا يزال النقاد والدارسون فى خلاف حولها.
وبعد أن اكتملت خطة الأعداد الخاصة بالسنة الأولى استكملنا فى مكتب صلاح عبد الصبور مناقشة بقية الأعداد، ولكن قبل ذلك اتفقنا فيما بيننا على أن تمنح المجلة الحرية كاملة لكتَّابها ما داموا لا يتجاوزون الموضوعية من ناحية، وحدود المنهج العلمى فى أدنى درجاته من ناحية ثانية. ولكن ظهرت المشكلة أننا فى حاجة إلى نوع من الحماية أو الدرع الذى يضمن لهذه المجلة أن تصدر فى سلام، دون أن تتدخل الرقابة أو تمنع صدورها، وقد كان الرئيس السادات فى ذلك الوقت يتحدث عن أن للديموقراطية أنيابا. وكان قد دخل فى مشكلات مع حلفائه الجدد من أجنحة تيار الإسلام السياسى الذين ساعدوه فى إجبار المد القومى بتياراته الناصرية والليبرالية واليسارية على التراجع والانكماش، لذلك كان من الطبيعى أن أقترح أنا على عز الدين إسماعيل وصلاح فضل فكرة مستشارى التحرير، أن نضع أسماء أساتذتنا الكبار فى صدارة المجلة، محتمين فى حضورهم، حتى نضمن مرور مقالات المجلة على الرقابة. ولو أنى كنت أرى أن هذه المجلة النقدية المتخصصة لن يصبر أحد على قراءة موضوعاتها الثقيلة الوطء ولا على الموضوعات العلمية الدسمة التى تحتويها، وظللنا نعمل ليل نهار لإصدار العدد الأول، وكان مستشارو التحرير على النحو التالى من الترتيب فى الصفحة الأولى من المجلة: د. زكى نجيب محمود، د. سهير القلماوي، د. شوقى ضيف، د. عبد الحميد يونس، د. عبد القادر القط، د. مجدى وهبة، د. مصطفى سويف، نجيب محفوظ، يحيى حقي. ويمكن لأى ملاحظ أن يدرك أن أسماء هؤلاء الأساتذة العظام، وأغلبهم رحل عن عالمنا، ينتسبون إلى تيارات متعددة تعدد الفكر القومى والليبرالى ولم يكن من بينها شيوعى واحد، مثل محمود أمين العالم الذى كان منفيا (باختياره) فى فرنسا، أو أحمد عباس صالح الذى كان يعيش ما بين بغداد ولندن. ولذلك كان زميلى صلاح فضل فى ذلك الوقت يسعى جاهدا لأن يعمل مستشارا ثقافيا لنا فى إسبانيا، وكان شبه متفرغ لهذا المسعى لا يجد من الوقت ما يتفرغ به ليكون مثلى فى الحماسة لاستكتاب الكُتاب أو تحميسهم للكتابة، ولم أقصر فى ذلك فلم أترك أحدا إلا وطلبت منه أن يكتب بما فى ذلك أستاذى الدكتور شوقى ضيف وزكى نجيب محمود وفؤاد زكريا. أما أستاذى الأعز عبد العزيز الأهوانى فقد كان قد فارق دنيانا خلال الاستعداد لإصدار العدد الأول. وعملت بحماسة بالغة لجمع مقالات العدد الأول، وفرغت من جمع المادة، وحاولت ترتيبها مع المشرف الفنى الأستاذ سعيد المسيري، فوجدت أن عدد الصفحات سوف يتضاعف عن الحجم المعتاد فى المجلات الأخري، فتركت الأمر للدكتور عز الدين إسماعيل كى يبلغ صديقه صلاح عبد الصبور راجيا إياه (بحكم الصداقة فيما ظننت) أن يتسامح معنا فى عدد صفحات المجلة التى اعتادت أن تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبالفعل أبلغ د.عز الدين إسماعيل صديقه صلاح عبد الصبور بتضخم عدد صفحات العدد، وكان الرد المتوقع هو: احذفوا المادة الزائدة واستبقوا المواد الأكثر أهمية لعدد الصفحات المطلوبة. وأبلغنى د.عز الدين إسماعيل بذلك فى نوع من الهدوء الذى حسبته فى انفعالى لا مبالاة، فذهبت إلى صلاح فضل فى بيته، ولم يكن قد تركنا إلى منصبه الجديد بعد، وأصررت على أن نذهب معا إلى صلاح عبد الصبور كى نقنعه بأن يترك عدد الصفحات كما جمعناها، وبالفعل ترك صلاح فضل منزله مستجيبا لى وذهبنا معا إلى منزل صلاح عبد الصبور الذى وجدناه نائما، فأصررت على زوجه أن توقظه من النوم لأمر مهم، فاستيقظ الرجل وجاء إلينا فى الصالون، وهو يتثاءب، سائلا عن السبب الذى جعلنا نحرمه من قيلولة الظهر التى كان يحرص عليها. وحكيت له ما قاله د.عز الدين إسماعيل لى بانفعال الشباب، وطالبته بأن يترك الصفحات كما هي، ولكى أزيده إقناعا قلت له: إنى ود.عز الدين إسماعيل وصلاح فضل واعتدال عثمان (وكانت سكرتيرة التحرير)، ومحمد دومة (وكان سكرتير التحرير التنفيذي)، وسعيد المسيرى (وكان سكرتير التحرير الفني) على أتم الاستعداد للتنازل عن المكافآت المالية التى سنحصل عليها من إصدار المجلة.
دهشة صلاح عبدالصبور
ويبدو أن حماستى وانفعالى البين قد سبب دهشة بالغة لصلاح عبد الصبور، انفجر على إثرها فى الضحك، مدركا أن حدتى البالغة كانت نتيجة الخوف على تجربة المجلة، وأفهمنى بنوع من الود الأخوى أنه حتى لو تنازلنا جميعا عن مكافآتنا فإنها لا تمثل شيئا بالقياس إلى أسعار الورق الذى سوف تستهلكه المجلة، وحاول أن يقنعنى باختصار عدد المقالات، ولكنى رفضت رفضا مطلقا أن أتنازل عن مقال واحد جمعته أو كلفنا به واحدا من الكُتَّاب أو المترجمين. ولم يصبر صلاح عبد الصبور طويلا على إنهاء النقاش، فرجانى مع صلاح فضل أن نتركه كى يكمل نومه، ويفعل الله ما يريد، وفهمت من ذلك أننى استطعت أن أزحزحه عن الموقف البيروقراطى الأول للموظف الكبير. وتركت صلاح فضل يعود إلى زوجه ليكمل استعدادات السفر إلى منصبه المرموق فى إسبانيا، وذهبت أنا مع سعيد المسيرى إلى مقر المجلة، وهناك سألته: كيف يا سعيد ننفذ ما نريد بقدر الإمكان، دون أن نجبر صلاح عبد الصبور على رفض ما جمعنا من المقالات الكثيرة؟ فقال سعيد المسيري: ليس أمامنا سوى حل واحد هو أن نطبع المجلة على الصفحة الكاملة المخصصة لها على صفحة «الربع جاير» التى تقص عادة لتصل إلى حجم المجلات العادية، ولكنه استدرك، قائلا: ولكن إذا فعلنا ذلك سوف يكون حجم المجلة غير عادى وبالغ الكبر، وقد يشتكى البعض من أنه لن يدخل فى أرفف المكتبات العادية، فقلت له بنزق الشباب واندفاعه: ليكن، قال: إذن سوف نفعل ذلك. ووجه تعليماته إلى المطبعة وكانت النتيجة أن ظهرت «فصول» بالحجم الكامل «الربع جاير» دون قص أى جزء منه، وطبعا كان الحجم غير عادي، وأثار استهجان الجميع ودهشتهم فى الوقت نفسه، لكنه حقق– من ناحية مقابلة- ما كنت أرغب فيه من الحفاظ على أغلب مواد العدد.
وصدر العدد الأول وهو يحمل اسم صلاح فضل الذى سافر فى سلامة الله إلى إسبانيا فوق اسمى (بالطبع لأنه أكبر منى سنا وأقدم منى فى السلك الجامعي). وكان العدد فى 337 صفحة من القطع الاستثنائي، ويحمل عنوان «مشكلات التراث»، وتستهله كلمة رئيس التحرير التى تقول: «أخيرا تصدر هذه المجلة، بعد أن ظلت ردحا من الزمن فكرة تجول فى أذهاننا، وأملا يراود أحلامنا. أخيرا، ونحن فى مستهل العقد التاسع من هذا القرن، تصدر هذه المجلة الفصلية المتخصصة فى حقل النقد الأدبي، استجابة طبيعية وضرورية لحاجة يلح الواقع فى طلبها، بعد أن جاوز الوعى فيه كل الطروح العشوائية فى حقل الثقافة الأدبية... لم يعد هذا الواقع يقنع بأن تكون المجلة «كشكولا» ينتظم طروحا شتى من المعارف المختلفة، تتباعد فى الموضوع بقدر ما تتفاوت فى المنحى الفكرى فضلا عن المستوى العلمي، ولم يعد يلائم هذا الواقع أو يصلح له تكرار الأنماط الفكرية المألوفة ودوارنها فى حلقة مفرغة، فهذا الفراغ قاتل، ولابد من حركة جديدة تملأ هذا الفراغ، ولكن بوعى جديد........... يتبع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.