صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    فلسطين.. طائرات الاحتلال تنفذ غارات على مخيم البريج وسط قطاع غزة    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون امتحان مادتي العلوم والتربية الفنية    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



47 عاما على رحيل عبدالناصر
وحشتنا نظرة عيونك للبلد يا جمال
نشر في الأهرام اليومي يوم 29 - 09 - 2017

رفض أن يعيش فى قصر الطاهرة حتى لا يعتاد أولاده حياة القصور
حصل على نيشان النجمة العسكرية من الملك فاروق
السودانيون حطموا الحواجز أثناء زيارته للخرطوم عقب النكسة

كان التلميذ جمال عبدالناصر يجلس آخر الصفوف لطول قامته، وحدث أن دخل أحد مفتشى اللغة العربية الفصل، ووقف يستمع إلى شرح المدرس الذى اندمج فى الشرح، وطلب من تلاميذه أن يضعوا كلمة »كتابة« فى جملة مفيدة يكون موقعها فاعلا.
وعجز كل من أشار إليهم المدرس عن تقديم هذه الجملة، وبلل العرق وجه المدرس خجلا أمام المفتش وعندما جاء الدور على عبدالناصر قال: ظهرت كتابة القرآن واضحة، ونال تصفيق الجميع.
وبعد انصراف المفتش طلب المدرس من »جمال« أن يضرب كل تلميذ »عصايتين« لعدم معرفتهم الإجابة، فرفض عبدالناصر أن يضرب زملاءه،، وهاج المدرس أكثر وخير »جمال« بين تنفيذ ما طلب أو يضربه كل تلميذ »عصايتين« لرفضه أوامر مدرسه!
وصمم عبدالناصر على موقفه وتحمل أكثر من 60 عصا فوق يده!
ومنذ هذه اللحظة تحول التلميذ عبدالناصر إلى زعيم للفصل يلعبون عندما يلعب، ويتوقفون عندما يتوقف.
هذا الذى رواه الصحفى الراحل حمدى فؤاد فى كتابه مأساة « عبدالحكيم عامر»يؤكد اسطورة عبدالناصر الخاصة اذا كان لكل انسان اسطورته التى تحكم مسار حياته
فطوال رحلته سوف يعرف الإجابة الصحيحة وبسبب هذه الإجابة يتعرض للضرب دائما، ولكن وتلك عظمة اسطورته يصبح بعد كل ضربة أقوى مما كان!
كل شيء فى حياة الطفل جمال عبدالناصر كان قاسيا، فالأب عبدالناصر حسين كان يعمل فى مصلحة البريد بالإسكندرية وكان مرتبه يكفى بصعوبة سداد ضرورات الحياة.
والطفل الصغير الذى ولد فى قرية بنى مر بصعيد مصر عام 1918، وجد نفسه لا يستقر بمكان تبعا لتنقل والده، فقد التحق بروضة الأطفال بمحرم بك فى الإسكندرية، ثم وجد نفسه بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة فى البحيرة عام 1923/ 1924.
وفى عام 1925 دخل مدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية، وأقام عند عمه خليل حسين لمدة ثلاث سنوات شعر خلالها بالوحدة والعزلة وكانت كل رسالة تصل إليه من أمه تنعش قلبه وتعيد إليه شجاعته كما يروى الكاتب السويسرى جورج فوجيه فى كتابه »جمال عبدالناصر وصحبه«.
وفى أواخر ابريل 1926 انقطعت رسائل الأم فجأة وكتب الأب يقول لولده ان أمه لم تتمكن من الرد عليه بسبب انشغالها. ولكنه عندما عاد للخطاطبة وجد أمه ماتت وأبوه تزوج، فأى قسوة وأى ضربة هذه لطفل عمره ثمانى سنوات؟
عاش عبدالناصر يتيما يطل الحزن من عينيه دائما. وقال بعد ذلك لمندوب «الصنداى تايمز» «فقد أمى بهذه الطريقة كان صدمة تركت شعورا لا يمحوه الزمن. وقد جعلتنى آلامى وأحزانى الخاصة أجد صعوبة بالغة فى انزال الآلام بالآخرين».
وقد علمه اليتم الصلابة والنظام مع القوة والاعتماد على النفس والجدية.
ووصفه أنور السادات قائلا «كنا جميعا خريجى دفعة واحدة، وكان جمال دائم التفكير، حزينا، رصينا متحفظا، ولم نكن نطلق نكتة حتى يقاطعنا ويعود بنا إلى عبارات الجد، كان الألم على فقد أمه قبل الأوان متملكا من فؤاده».
طاقة الغضب
يحكى جمال عبدالناصر فى أوراقه الخاصة عن أول مظاهرة اشترك فيها وكانت فى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية: كنت أعبر ميدان المنشية فى الإسكندرية حين وجددت مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات البوليس وانضممت على الفور إلى المتظاهرين دون أن أعرف أى شيء عن السبب الذى كانوا يتظاهرون من أجله، لقد رأيت أفرادا من الجماهير فى صدام مع السلطة واتخذت موقفى دون تردد فى الجانب المعادى للسلطة، وهوت على رأسى عصا من البوليس تلتها ضربة حتى سقطت على الأرض ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسى مع عدد من الطلبة وقد دخلت السجن تلميذا متحمسا وخرجت منه مشحونا بطاقة من الغضب.
وضاق المسئولون فى المدرسة بنشاطه وأبلغوا والده فأرسله إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة النهضة الثانوية بحى الظاهر.
ولم يتوقف نشاطه السياسى وانما أضاف إليه شغفا بالقراءة فقرأ عن الثورة الفرنسية وعن روسو وفولتير ونابليون والإسكندر وكمال أتاتورك، ويوليوس قيصر، وغاندي، كما قرأ عن أبطال الإسلام، وأعجب كثيرا بكتاب عودة الروح لتوفيق الحكيم، وطبائع الاستبداد للكواكبى وكتب مقالا عن فولتير رجل الحرية، وقام بتمثيل دور قيصر فى مسرحية »يوليوس قيصر«
وعندما صرح صمويل هور وزير خارجية بريطانيا عام 1935 برفض بلاده عودة الحياة الدستورية لمصر اندلعت مظاهرات الطلبة، وأصيب جمال خلالها بجروح فى جبينه سببتها رصاصة لم تنفذ إلى الرأس ونشر اسمه فى اليوم التالى فى جريدة الجهاد ضمن الجرحي.
وبسبب نشاطه السياسى كان ناظر المدرسة يرفض اداءه الامتحان ، جاءت درجاته فى البكالوريا ضعيفة مثلا (22 من 40) فى العربى و(21.5 من 40) فى التاريخ و(8.5 من 20) فى العلوم وكان ترتيبه 889 فى قائمة الناجحين على مستوى القطر، وكان عدد الطلاب حوالى ألف طالب.
الهيئة ترفضه بالحربية
تقدم جمال للالتحاق بالكلية الحربية ودار بينه وبين رئيس لجنة كشف الهيئة الحوار التالي:
اسمك أيه؟
جمال عبدالناصر حسين
أبوك بيشتغل ايه؟
موظف بمصلحة البريد
موظف كبير؟
لا.. موظف بسيط
بلدكم ايه؟
بنى مر.. أسيوط
يعنى فلاحين؟
أيوه
فيه حد من عيلتكم كان ضابط جيش؟
لا
أمال أنت ليه عايز تبقى ضابط؟
علشان أبذل دمى فداء الوطن
عندكم أملاك؟
احنا ناس كادحين
فيه حد اتكلم علشانك؟
واسطة يعني؟ أنا واسطتى ربنا
انت اشتركت فى مظاهرات سنة 1935؟
أيوه
كدة.. طيب اتفضل
وخرج جمال وسرعان ما علم أنه سقط فى كشف الهيئة لأنه كما يقول الكاتب فوشيه فلاح من بنى مر، وابن موظف بسيط لا يملك أملاكا، كما انهم لا يريدو ن ثائرا.
والتحق عبدالناصر بكلية الحقوق جامعة القاهرة لمدة 6 شهور وكان من الممكن أن يستسلم لهذه الضربة، ولكن عندما أعلنت وزارة الحربية عن حاجتها لدفعة ثانية لتقوية الجيش المصرى حليف بريطانيا بعد معاهدة 1936. استجمع عبدالناصر شجاعته وذهب لمقابلة اللواء إبراهيم خيرى باشا وكيل وزارة الحربية وسأله هل تقبل الكلية الطلاب طبقا لقواعد عامة تسرى على الجميع؟ أم أنها لا تقبل إلا أصحاب الواسطة؟
فسأله الباشا: لماذا هذا السؤال
أجاب: نجحت فى الكشف الطبى ولكن كشف الهيئة فى حاجة إلى واسطة وليس أمامى إلا العودة لكلية الحقوق
فقال الباشا بعد أن رمقه بدهشة واعجاب:
تقدم للكلية، وتقدم عبدالناصر وكان إبراهيم خيرى باشا رئيس اللجنة فأمر بقبوله.
لكن السؤال هل يستطيع أى شخص فى ظروف عبدالناصر الآن الالتحاق بكلية الشرطة مثلا؟.. وهل يستطيع أن يلتقى وكيل وزارة الحربية؟ يلتمس منه الواسطة؟ إذا كانت الإجابة على السؤالين، لا، فلماذا قامت الثورة إذن؟
ولماذا تقوم الثورات عندنا من أجل إصلاح الأوضاع، فتزيدها سوءا.. وقد تصبح البلاد أكثر تخلفا وتطرفا واستبدادا ورجعية؟!
خطاباته لأبيه
منذ صغره كان جمال عبدالناصر شخصية دقيقة منظمة يظهر ذلك فى الخطابات التى كان يرسلها لوالده، فالخطابات واضحة المعانى قليلة العبارة، بالغة العزوبة وتفيض بمشاعر الود والإنسانية والأدب، فهو لا يبدأ أى خطاب لوالده إلا ويقول:
بعد تقبيل اياديكم الكريمة
يرسل لأبيه وهو فى الكلية الحربية قائلا:
والدى العزيز: بعد تقبيل اياديكم الكريمة ارجو أن تكون متمتعا بالصحة والعافية أعرفك أنى لن أخرج هذا الأسبوع وارجو ارسال المصاريف غدا لأن اخر ميعاد كان أمس،، وارجو ارسال فلوس الغسيل، وتكلف عمى بالذهاب إلى البشارى أفندى ويسأله ميعاد التخرج لانى علمت أنه أول مايو.. ولابد من ارسال المصاريف غدا.
وبعد أن أصبح ضابطا يكتب لأبيه من منقباد والدى العزيز: بعد تقبيل أياديكم الكريمة أعرفك أنى وصلت أمس منقباد، وقلبى يلهج بالشكر لكم.. وقد بقينا أمس بدون شغل.
وقد استلفت سريرا من أحد أصدقائى ومستريح جدا.. العفش وصل أمس، وقد ارسلنا اليوم لاستلامه لان المحطة تبعد عن القشلاق حوالى 3 كيلو، قد ذهبت أمس لأسيوط لشراء ملابس ألعاب. واعرفك أن البلد مش كويسة قوى فهى أقل من طنطا. ارجو عند استلام الأشياء المرسلة من المحلة ان ترسل »البقجة« فقط ولا ترسل الكرسى لأنى لست فى حاجة إليه، أعرفك أن الفلوس التى معى كفاية جدا فلا تكون مشغولا من هذه الجهة.. وختاما ارجو ان تتقبل تحياتى وأشواقي.. ابنكم جمال عبدالناصر.
وفى إحدى الفترات حدثت جفوة بين أسرته وبين عمه خليل وقام عبدالناصر بز يارة عمه واكتشف سوء حالته وكتب لأبيه:
والدى العزيز: اهديك سلامى وأشواقى وأقبل أياديك الكريمة وأرجو أن تكون بخير. عدت من دمنهور وقد صفيت كل شيء من جهة العم.. والحقيقة تألمت جدا فهو لا يقوم الآن بأى عمل بعد ترك العزبة الأخيرة، وقد ظهر لى أن الأحوال خلاف ما كنت اعتقد من الناحية المالية، فالحالة مختلفة جدا عن الأيام الماضية، والعم يكافح فى كل مكان حتى يحصل على أى مبلغ مهما كان بسيطا حتى يساعدهم على المعيشة، وقد تأثر جدا لذهابى لزيارته فجأة وكان سروره عظيما، وكان يقول انه انزوى لما وجدنا جميعا انفضينا من حوله عند العسر..
من أوراق الحصار
فى حرب فلسطين كان عبدالناصر يسجل يومياته، يكتب كل شيء حتى حديثه مع الوالد تليفونيا أو مع زوجته تحية، وميعاد الاتصال وما دار فى المكالمة مثلا »تحية تكرر السؤال دائما عن ميعاد العودة الذى لا يعلمه إلا الله«
ويوم الخميس 28 أكتوبر 1948 يكتب حلقت طائرات وألقت منشورات تطلب منا التسليم وتشرح موقفنا جيدا بأسماء الوحدات قابلناه بالسخرية رغم أننا محاصرين من يوم 16 أكتوبر، وبالرغم من طلبنا تعيينات وذخيرة بواسطة الطيران، وبالرغم أن طلباتنا لم تجاب،، ولم يلتفت إليها فسنقاوم إلى آخر رجل.
لقد فقدنا الإيمان فى قيادة الجيش وقيادة البلد، هؤلاء المضللون المحتلون ماذا عملوا بعد ان دخلنا الحرب لا شيء.
لم تصل أى امدادات، الأسلحة التى دخلنا بها هى هي، ان اليهود لأفضل آلاف المرات، بعد أن كانوا يدافعون عن أنفسهم ببنادق الرش، أصبحوا قوة كبرى بها طيران ودبابات ومشاة، مجهزة بالهاون ومعها مدفعية ثقيلة.
عندما كان اليهود محاصرون قبل يوم 16 الجاري، كانت طائراتهم فى الجو باستمرار لتموينهم.. أين سلاحنا الجوي؟ لقد اختفي.
وكان صمود عبدالناصر ورجاله لمدة شهرين فى حصار الفالوجة آية من آيات البطولة استحقوا عليها أنواط الشجاعة بعد عودتهم لمصر.
وحصل عبدالناصر على نيشان النجمة العسكرية من الملك فاروق الذى لم ينس أن يضع جمال وزملاءه تحت المراقبة، بعد توقيع الهدنة مع إسرائيل فى فبراير 1949.
وحدث أن إلتقى الصاغ كمال الدين حسين بصديقه جمال عبدالناصر فى معسكر العريش وروى له الكلمات الأخيرة التى تكلم بها البطل أحمد عبدالعزيز.. اسمع يا كمال.. ميدان الجهاد الحقيقى ليس هنا.. انما هو فى مصر فهناك ميدان الجهاد الأكبر.
قائد دون عناء
بدأ عبدالناصر فى تشكيل تنظيم الضباط الأحرار وفى الجلسة الأولى يقول خالد محيى الدين فى مذكراته (الآن أتكلم): ومنذ أن احتوتنا غرفة الصالون فى بيت عبدالناصر فى كوبرى القبة، تولى جمال القيادة دون عناء ودون قرار منه أو منا.. كنا خمسة موزعين على أسلحة مختلفة عبدالناصر وعبدالمنعم عبدالرءوف »مشاة« وكمال الدين حسين مدفعية، ومحسن إبراهيم طيران، وخالد محيى الدين.. فرسان.
وأكد عبدالناصر أن عبدالحكيم عامر معنا وان لم يحضر وقال انه لا يخفى عنه شيئا.
وفى الأوراق الخاصة يقول عبدالناصر انه وضع خطة التنظيم السرى للضباط الأحرار فى صورة هرم متسلسل من الخلايا، لا أحد فى خلية يعرف أحدا فى خلية أخري، ضمانا وأمنا: وتوالت منشورات الضباط الأحرار، التى كانت تطبع على مكنة »زويتو« قديمة فى بيت البكباشى حمدى عبيد الذى كان بعيدا تماما عن السياسة.. حتى جاءت ليلة الثورة ووضع زكريا محيى الدين خطتها وعرضها على عبدالناصر الذى عدل فيها ووافق عليها.
القبض على عبدالناصر
وتكشف الأوراق الخاصة التى أعدتها دكتورة هدى عبدالناصر ان ضابطا من المخابرات وكان عضوا بتنظيم الضباط الأحرار، جاء إلى بيت عبدالناصر ليلة ثورة 23 يوليو حوالى الساعة العاشرة مساء وحذره بأن القصر تسرب إليه نبأ الثورة، وانه قد تم الاتصال برئيس أركان حرب الجيش الذى دعا إلى عقد اجتماع عاجل فى مقر قيادة الجيش الساعة الحادية عشرة مساء، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإجهاض الثورة، وأضاف الضابط: لابد أن يلغى كل شيء! فرد عليه عبدالناصر، لن نستطيع ذلك أبدا، ان العجلة دارت ولن يستطيع أى إنسان أن يوقفها!
.. وإن الأمر الذى أصدره قائد الجيش بجمع كبار القادة فى مبنى القيادة يعطينا فرصة ذهبية لاعتقالهم كلهم مرة واحدة.
وتحركت مع عبدالحكيم عامر لنجمع بعض القوات من ثكنات العباسية لكن البوليس الحربى أغلق الثكنات وفى سلاح الفرسان نفس الشيء، وبدا للحظات أن خطتنا فى خطر وقلنا لنتجه إلى ثكنات ألماظة كحل أخير وفى الطريق التقينا طابورا من الجنود قادمين من تحت الظلام والقوا القبض علينا!
ويقول عبدالناصر طبقا »لفوشيه«: كانت هذه أحرج لحظة فى حياتي، اعتقدت أن الخطة أخفقت تماما. لكننى سرعان ما سمعت البكباشى يوسف صديق يقول انه تحرك قبل الميعاد بساعة. فانقذ الثورة. و تقدم وهاجم رئاسة الأركان وألقى القبض على كل من بداخله بعد معركة استمرت 40 دقيقة.
كان عبدالناصر مخططا عظيما وداهية، يختار الرجل المناسب للدور المناسب، فإذا تجاوز هذا الدور أزاحه من الطريق. وكان أول صدام مع على ماهر رئيس الوزراء الذى رفض قانون الإصلاح الزراعي، فتمت اقالته لينفذ قانون الإصلاح الزراعى بعد 47 يوما فقط من اقامة الثورة.
وبعدها لم يحتمل شعبية الرئيس نجيب الطاغية وربما أحس بأنها ستجرف كل اماله وطموحه فى القيادة، فدبر له مؤامرة ؟؟ واعتقله فى فيلا زينب الوكيل بالمرج، وأصبح الرئيس نجيب عن حق الرجل الذى تحالفت عليه فضائله وعيوبه، على قول الراحل فتحى رضوان.
بعدها انفتح الطريق أمام عبدالناصر ليكون الرجل الأول ونجح فى أن يقود مفاوضات جلاء الإنجليز عن مصر، وأن يرفع العلم المصرى وينزل العلم الإنجليزى عن بورسعيد، لتصبح مصر حرة بعد 72 عاما من الاحتلال الإنجليزى فى 18 يونيو 1956.
البيت القديم
كان عبدالناصرعن حق أباً للفقراء يعيش حياة بسيطة فى المأكل والمسكن والحياة وظل هكذا حتى آخر يوم فى حياته، يقول الدكتور عبدالمنعم القيسونى أصغر وزير مالية فى تاريخ مصر، حدث أن انتقل جمال بعائلته إلى قصر الطاهرة لإجراء الإصلاحات فى بيته القديم ولكن عبدالناصر لم يطق أن يبقى فى القصر أسابيع قليلة حتى تنتهى الإصلاحات.. وقال لنا فى اجتماع مجلس الوزراء ذات مساء: لقد قررت أن أعود إلى بيتى القديم قبل انتهاء الإصلاحات..!
ان ابنائى عندما يكبرون سوف يعملون فى وظائف الدولة، ويمارسون العمل المعتاد للموظف بالأجر المعتاد، فلا جاه ينتظرهم، غير الذى يصنعونه بأيديهم وكفاحهم.. اننى عائد بهم إلى بيتهم قبل أن يألفوا حياة القصور!
وعاد للبيت القديم وعلى اعتابه مازالت آثار الحصى والطوب وبقايا الأسمنت والجير.
عبدالناصر بعيون تحية
تزوج عبدالناصر من تحية كاظم بعد فترة خطوبة خمسة شهور ونصف الشهر، كان خلالها يصطحبها إلى السينما أو المسرح وتكون معهما شقيقتها وزوجها.
وكانت شقة الزواج من خمس حجرات وصالة. هذا ما ترويه السيدة تحية عبدالناصر فى كتابها «ذكريات معه» تقول: كان عبدالناصر منظما فى كل شيء لا يحب أن يساعده أحد فى لبسه، وعند رجوعه للمنزل يخلع البدلة ويعلقها بنفسه على الشماعة. لم يكن فى بيتنا تليفون.
وكل شيء فى البيت كان محظورا ولا يبعث على الاطمئنان، وكنت أعرف ذلك ولكنى لم أفهم الغاية ولم أجد إلا الحرص والكتمان.. لم ينقطع وجود الأسلحة فى البيت.. يوم أو يومان وتختفى وأستريح ثم يصلنا غيرها.
لليلتين قبل الثورة لم ينم، وظل بملابسه العادية جالسا فى حجرة السفرة على الترابيزة يشتغل.
ويوم الثورة قال لشقيقه الليثي: انه ذاهب إلى مهمة خطيرة، فإذا رأيتم الجيش نازلا والعربات فاعرفوا أنى نجحت، وإذا لم تروا شيئا اسألوا عنى غدا، واعرفوا أنا فين.
فى الساعة السادسة والنصف، جاء ثروت عكاشة وهنأنى قائلا: نجح الانقلاب هكذا تقول تحية.
فقلت: أين جمال. فقال فى القيادة العامة، وأسمعى بيان الساعة السابعة، وسمعنا البيان من السادات.
وبعد أسبوع من قيام الثورة دخل التليفون بيتنا.
فى أحداث 1954 ومؤامرة سلاح الفرسان، طلب منى أن أذهب وابيت عند شقيقتى فى الجيزة خوفا من تفجير المنزل.
وحضرت خطابه فى تأميم قناة السويس وقال لي: لم يكن يعلم بالقرار إلا اثنان من الوزراء، وكنت بجانبه عندما جاء تليفون يخبره بانفصال الوحدة مع سوريا.
أول سفر لى معه كان إلى يوغوسلافيا بدعوة من الرئيس تيتو، وكان معنا محمود فوزى وهيكل وزوجتاهما.
لا نهاية لدرس السويس
بينما كنا نحتفل بعيد ميلاد أخى عبد الحميد الخامس، تحكى هدى عبد الناصر، فوجئنا بمن يدعونا لدخول المنزل، والبعد عن إحداث أى صوت، بسبب أن والدى لديه ضيوف، وأنه يعمل فى مكتبه، لم أكن أدرى وأنا طفلة أن القوات الإسرائيلية بدأت هجوما شاملا ضد مصر على خطوط الهدنة يوم الإثنين 29 أكتوبر 1956.
والغريب أن سبب هذه الحرب لم يكن له علاقة بإسرائيل التى أشعلتها. كان عبد الناصر قبل الحرب بشهور يبحث عن تمويل ب 200 مليون جنيه لبناء السد العالي، ووجد تشجيعا من الولايات المتحدة والبنك الدولى وبريطانيا التى عرضت أن تسهم ب 16 مليون دولار (5 ملايين جنيه مصرى فى ذلك الوقت)، لكنه فوجئ بثلاثتهم ينسحبون من تمويل المشروع. كان عبد الناصر عائدا من مؤتمر فى يوجوسلافيا حضره تيتو ونهرو الذى كان مصاحبا له فى رحلة العودة لمصر. وعرف فى المطار بقرار أمريكا سحب التمويل وتبعه قرار بريطانيا ثم البنك الدولي.
يقول عبد الناصر فى أوراقه الخاصة: قدرنا أننا نستطيع أن نأخذ من قناة السويس 60 مليون جنيه دخل قناة السويس فى ذلك الوقت كنا نأخذ منهم مليون جنيه فقط ويذهب 59 مليون جنيه للشركة الإنجليزية والفرنسية. وعلى هذا الأساس قررنا أن يكون ردنا على سحب تمويل السد العالي، تأميم قناة السويس.
وفى خطاب يوم 26 يوليو 1956 فجر عبد الناصر المفاجأة بكلمته الشهيرة «تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، شركة مساهمة مصرية وينقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات... إلخ».
وقامت الدنيا ولم تقعد حتى وصلت للعدوان الثلاثى الظالم ضد مصر من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وقد بدأت إسرائيل العدوان ثم جاء أغرب إنذار من بريطانيا وفرنسا يطالب مصر بتسليم مدن القناة الإسماعيلية وبورسعيد والسويس خلال 12 ساعة وإلا سيتم احتلالها بالقوة!
ورفض عبد الناصر الإنذار بقوة وصلابة كعادته وسافر سرا إلى بورسعيد ليكون على خط النار ويرفع معنويات جنوده، وأدار المعركة سياسيا باقتدار، ساعده أن اللحظة كانت تؤذن بغروب إمبراطوريتين (بريطانيا وفرنسا) وشروق إمبراطوريتين مكانهما (أمريكا والاتحاد السوفيتي)، وفى إطار السباق على النفوذ فى المنطقة اضطرت أمريكا إلى أن تقدم الوجه الطيب والوقوف بجانب مصر.
وكانت الحرب مأزقا للجميع بمن فيهم الرئيس الأمريكى أيزنهاور الذى وجد نفسه ضد حليفيه بريطانيا وفرنسا وقريبا من عدوه السوفيتي، فرفض الحرب ودعا لانسحاب القوات المعتدية.
كانت الحرب عدوانا سافرا على مصر وسيادتها، ولعل ما قاله أنتونى ناتنج وزير الخارجية البريطانية فى الندوة التى عقدت بالقاهرة بمناسبة مرور 30 عاما على حرب السويس ما يكشف الصورة بحق.
يقول: منذ أول لقاء بين عبد الناصر وأنتونى إيدن رئيس وزراء بريطانيا لم تكن العلاقة جيدة، أحس عبد الناصر بأن إيدن عامله بعجرفة، وينظر إليه كضابط صغير جعلت منه الصدفة قائدا لمصر.
كان إيدن شديد الخيلاء والتيه بنفسه وغضب من عبد الناصر بسبب صفقة الأسلحة التشيكية وهجومه على حلف بغداد، لكنه رغم ذلك واصل على مضض تأييده فكرة تمويل السد العالى ليحول دون قيام الروس بمساعدة مصر فى بناء السد.
ويضيف ناتنج صاحب كتاب حرب السويس «لا نهاية للدرس»! وعندما تم طرد الجنرال الإنجليزى جلوب من رئاسة أركان الجيش الأردنى غضب غضبا شديدا، رفض كل التفسيرات العقلانية لطرد هذا الجنرال العجوز ولم يكن فى ذهنه إلا أن عبد الناصر هو الذى فعل هذا!! ومنذ تلك اللحظة لم تعد الدنيا تسع الاثنين معا: عبد الناصر وأيدن!.
وأعلن حربه على عبد الناصر، لكنه ظل عاجزا مدة 5 شهور حتى حل شهر يوليو 1956 وقام دالاس وزير خارجية أمريكا بإعلان سحب عرض تمويل السد العالي، فأيده على الفور، وبعد سبعة أيام أعلن عبد الناصر تأميم القناة فظن إيدن أن الفرصة التى كان يبحث عنها جاءته!
وأعد خطة عسكرية مع فرنسا لمهاجمة مصر وكان جى موليه رئيس وزراء فرنسا مقتنعا تماما مثل أيدن بأن كل متاعبه فى العالم العربى سببها عبد الناصر الذى أشعل ثورة الجزائر منذ عامين.
ويضيف ناتنج الذى استقال اعتراضا على هذه الحرب: تم الاتفاق مع إسرائيل على أن تبدأ الحرب، ولكن بن جوريون أصر على أن تمثيل دور الذريعة لتبرير التدخل البريطانى الفرنسى لابد أن يكون مقابل تجريد عبد الناصر من قوته الجوية، وأن يتم ذلك بمجرد أن تجتاز القوات الإسرائيلية حدود مصر. وبعد مفاوضات تم الاتفاق على أن يتم ذلك بعد 48 ساعة من الحرب.
وهكذا وفى مساء 31 أكتوبر قامت قاذفات القنابل البريطانية بضرب القواعد الجوية الأربع الرئيسية فى مصر.
ولما كنت فشلت دون حدوث هذه المأساة كان عليّ أن أستقيل.
وبعد الإنذار السوفيتى وضغط التهديدات الأمريكية، أجبرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على الانسحاب. وأيدن الذى كان يخطط لمجد زاهر ونصر عسكرى ساحق، اضطر للاستقالة بعد شهرين، وانزوى محطما يواجه نهاية مأساوية لرجل حاول أن يلعب دورا لا يناسبه.
وخرج عبد الناصر من حرب السويس بطلا وزعيما للعالم الثالث بعد أن أنهى العصر الإمبراطورى لكل من إنجلترا وفرنسا وتحولت كلتاهما إلى دولة صناعية وتجارية. على قول هيكل فى الندوة الدولية نفسها عن حرب السويس، كما غيرت هذه المعركة من وسائل السيطرة على اقتصادات الدول الغنية، فأصبح احتلال الموارد والثروات أهم من احتلال المواقع عن طريق الشركات العابرة للقارات والبنوك.
بعد انسحاب بريطانيا وفرنسا عادت أمريكا إلى موقفها القديم ضد عبد الناصر، وراحت تنفذ خطتها ضده بالضغط الاقتصادى والتجويع، فرفضت أن تبيع القمح لمصر بعد أن اتفقت عليه مسبقا بالنقد المصري. فاضطرت القاهرة كما روى لى على نجم محافظ البنك المركزى الأسبق إلى أن تبيع 15 طنا من أرصدتها الذهبية لتمويل شراء القمح.
وقام وعمره 34 عاما فقط ببيع هذا الكم الضخم من الذهب إلى أحد بنوك سويسرا.
كما عملت أمريكا على أخذه من العالم العربى فأوقعت بينه وبين السعودية، ثم أخذت منه سوريا، وعزلته لتضربه بعد ذلك وحده فى 1967.
وكانت النكسة التى لا يمكن إرجاعها إلى وجود مؤامرة خارجية فقط. فالمؤامرة موجودة دائما، ولكن لابد أن يكون النظام فى الداخل من الضعف والخلل ليسمح بالهزيمة أن تمر والمؤامرة أن تنجح.
يتشابه عبد الناصر ومحمد على فى أشياء كثيرة، ولكن الخلاف الجوهرى بينهما أن محمد على بنى مصر أولا جيشا واقتصادا وتعليما، ثم خرج يقول للعالم إن مصر دولة قوية تغزو هنا وتحارب هناك بينما عبد الناصر خرج يغزو هنا ويحارب هناك قبل أن تكتمل مشروعاته الصناعية وخططه لنهوض الدولة، وكان ضعف جيشه تحت قيادة المشير عامر شيئا لا يخفى على أحد. ودفعت مصر كلها ثمن سكوت عبد الناصر على القيادة غير الكفء للمشير عامر، وتلك سقطة كبرى لرجل مثل عبد الناصر لا يغفرها اعترافه الأدبى بالمسئولية عن الهزيمة، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى وقوعها.
قبل الهزيمة بيومين
يوم 3 يونيو اجتمع الرئيس عبد الناصر مع قادة القوات المسلحة وقال لهم بالتحديد: إن يوم 5 أو 6 يونيو هو موعد الهجوم الإسرائيلى علينا، وقال الفريق عزت سليمان قائد القوات البحرية: لا أستطيع تنفيذ كل المهام لأن قواتى ليست قادرة بدرجة كافية، وجزء كبير منها يتم إصلاحه.. وقال الفريق صدقى محمود قائد القوات الجوية: أوافق على الحرب بشرط أن نبدأ الضربة الجوية الأولي، فقال له عبد الناصر: يا صدقى هل تفضل أن نبدأ الضربة الأولى ونحارب إسرائيل وأمريكا أم نتلقى الضربة الأولى ونحارب إسرائيل فقط، فرد عليه صدقي: لكن هذا سوف يدمرنا.
هذا ما رواه لى اللواء مصطفى الحناوى قائد القوات الجوية الأسبق وأحد ثلاثة كلفهم الرئيس عبد الناصر بلجنة تقصى حقائق أسباب هزيمة 67، والاطلاع على جميع المحاضر بين الرئيس عبد الناصر وقادة القوات المسلحة.
وأضاف أنه من المفارقات الغريبة أن يقوم المشير عامر مصطحبا قائد القوات الجوية يوم 5 يونيو فى جولة لتفقد القوات المسلحة، وفى أثناء طيرانهما فى الجو بدأت الحرب، وشاهدا حرائقها، وكانت دفاعاتنا الجوية فى حالة سكون حتى تعود طائرة المشير.
فأحداث 1967 يصعب على أى مخرج سينمائى أن يتخيلها، على حد قول اللواء الحناوي، لكنه اكتشف أن عبد الناصر لم تكن له سلطة على القوات المسلحة، ولم يكن فى مقدوره أن يقوم بنقل «عسكري» دون موافقة عامر!
كانت الهزيمة أكبر من أى كلام أو تبريرات وكان عبد الناصر ذكيا شجاعا عندما خرج يعلن مسئوليته الكاملة عما حدث.
وزلزلت المفاجأة الشعب المصري، فلأول مرة يرى قائدا أورئيسا فى لحظة ضعف وانكسار وهو يعتذر ويكاد يبكى تأثرا.. فما بالك لو كان هذا الزعيم شامخا قويا جبارا كعبدالناصر، لابد أن يكون رد فعل الشعب أشد مما يتخيل أحد. وبالفعل خرجت الجماهير إلى الشوارع فى مصر والعالم العربى تطالب عبد الناصر بالبقاء.
وحتى عندما ذهب عبد الناصر لقمة الخرطوم فى أغسطس 1967 استقبله السودانيون بشكل أسطوري، وبمجرد أن هبطت طائرته المطار اقتحم السودانيون كل الحواجز، وتخطوا رجال الأمن وهم يهتفون بحياة عبد الناصر والثأر من إسرائيل، كما يذكر محمود رياض وزير الخارجية الأسبق فى مذكراته، كان رياض يستقل سيارته خلف الرئيس عبد الناصر عندما همس فى أذنه أحد الوزراء السودانيين: إن الخرطوم لم تشهد فى تاريخها مثل هذا الطوفان من الناس حول زعيم لم ينحن للهزيمة.
الاستقبال غير المسبوق جعل مجلة النيوزويك الأمريكية تضع صورة عبد الناصر على الغلاف وتقول: أول مرة يتم استقبال قائد مهزوم استقبال المنتصرين، فعبد الناصر وتلك أسطورته التى تحقق دائما. فقد خرج من الهزيمة أقوى حتى لو بدا كل شيء غير ذلك.
يا جمال يا نور العين
كانت الأزمة بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية، أو ما عرف بأيلول الأسود، من أكبر الأزمات التى واجهت عبد الناصر بعد النكسة، فبذل مجهودا كبيرا حتى اجتمعت القمة العربية فى القاهرة للخروج بحل لهذه الكارثة، وبالفعل كان سعيدا بالوصول إلى اتفاق تم التوقيع عليه مساء 27 سبتمبر 1970.
ولكنه بعد وداع الرؤساء والملوك العرب شعر بتعب شديد، خاصة وهو يودع أمير الكويت آخر المغادرين.
عندما وصل عبد الناصر المنزل حضر بسرعة طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب الذى لاحظ تزايدا شديدا فى سرعة ضربات القلب وانخفاضا فى ضغط الدم، فقام بعمل رسم للقلب واكتشف وجود جلطة جديدة فى الشريان التاجي.
كان عبد الناصر قد فتح الراديو ليستمع لنشرة الخامسة ثم أغلقه، فقال له الدكتور الصاوي: يجب أن تستريح، لا داعى لأى مجهود الآن، فرد عبد الناصر فى هدوء: لا يا صاوي.. الحمد لله.. أنا دلوقت استريحت! ومال برأسه للجانب الأيمن فجأة.
وتحسس الدكتور الصاوى النبض فوجده توقف، فقام بعمل تنفس صناعى وتدليك خارجى للقلب لمدة ثلث ساعة، لكن دون جدوي. فقد مات عبد الناصر، وكانت الساعة تشير إلى السادسة والربع يوم 28 سبتمبر 1970.
وجاءت جنازته التى شيعت بعد ثلاثة أيام من الوفاة شيئا أسطوريا، احتشد لها ما يزيد على أربعة ملايين لإلقاء نظرة الوداع، وبلغ من شدة الزحام فى الشوارع أن أعمدة إنارة تحطمت جراء التدافع، وبالموت «صحت» أسطورته مرة أخري.
لماذا تركتموه يموت؟
كان موت عبد الناصر وعمره 52 عاما فقط صدمة فى مصر والعالم جعلت شوان لاى الزعيم الصينى يقول لأول وفد مصرى يزور بكين بعد الوفاة: لماذا تركتم عبد الناصر يموت؟ وفوجئ أعضاء الوفد بالسؤال، وبعد فترة حيرة قالوا: هذه مشيئة الله! فقال لهم يجب ألا نحمل الله مسئولية ما نفعل.. لابد من سبب.. لقد مات شابا..! إننى الآن فى الثانية والسبعين ولا أزال أعمل وفى صحة جيدة.. إننى لا أستطيع أن أتصور كيف مات.. كيف سمحتم له بأن يموت؟.
وأصدرت مجلة «التايم» الأمريكية عددا خاصا «ناصر: الأمل والتغيير» قالت فيه «ظل العالم العربى ألف عام يبحث عن بطل يعيد مجد خليفة بغداد وأيام صلاح الدين، وجاء جمال ليلعب هذا الدور فأطاح بالملكية الفاسدة والإقطاع وحقق الرفاهية لشعبه، وتعلقت الآمال بابن موظف البريد الصغير الذى قضى على الباشوات بعد أن عاشوا يمتصون دماء الفلاحين، بدأ معركة التصنيع وخاض كفاحا مريرا من أجل ذلك، وخلق فى مصر والعالم العربى كله نوعا من الكرامة وتأكيد الذات، لذا ترك بعد رحيله مائة مليون عربى يتامي.
أما توفيق الحكيم الذى كتب «فى عودة الوعي» أنه ظل 18 عاما فترة حكم عبد الناصر غائبا عن الوعي، فقد طالب بعمل تمثال لعبد الناصر فى ميدان التحرير وتبرع بخمسين جنيها لعمل هذا التمثال وكتب فى الأهرام «اعذرنى يا جمال، فالقلم يرتعش فى يدي، ليس من عادتى الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر، لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعا عليك، لأن كل بيت فيه قطعة منك، لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة فى صرح بنائك، فأنت لم تكن بالزعيم المصنوع سلفا فى مصنع السياسة تربصا للفرق، بل كنت بضعة من جوهر شعبك النفيس صاغها بيده من دأب وحرب بعد طول معاناة وانتظار على مدى أحقاب، فإن يفقدك اليوم يفقد فيك نفسه وثمرة أمله، كذلك كان هذا الرشد الذى طاش من الرءوس ساعة سماع نعيك، إنه ليس مجرد حب لشخصك، إنما هو الحرص على معنى يعيش فى بلدك لقد جسد الشعب فيك صورة حريته، لقد جعل منك حيا تمثال الحرية لنا، فاسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالا عاليا فى ميدان التحرير، ليشرف على الأجيال ويكون دائما رمز الآمال، وما ينبغى أن يقيم هذا التمثال سلطة أو دولة، لكنه الشعب نفسه، من ماله القليل يقيمه، وأنا من بين هذا الشعب أتقدم اليوم بما أستطيع تقديمه، هذه الخمسون جنيها أسهم بها افتتاحا لقائمة الاكتتاب، وما أرخص المال إلى جانب فضلك يا جمال، وخاصة فى أعياد العلم على الأدباء والعلماء والمفكرين والفنانين، ستبقى دائما فى ذاكرتنا وأنت فى عليين».
الفجيعة جعلت نزار قبانى يصرخ:
قتلناك يا آخر الأنبياء
قتلناك وليس غريبا علينا
قتل الصحابة والأنبياء
فكم من رسول قتلنا
وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى العشاء..
وأما صلاح جاهين فقال:
حتى الرسول مات وأمر الله لابد يكون
بس الفراق صعب واحنا شعب حنون
وحشتنا نظرة عيونك للبلد يا جمال
والحزم والعزم فيها وحبها المكنون
كويتى يحرج السادات!
بعد حرب أكتوبر بدأت ماكينة السادات الإعلامية تهاجم عبدالناصر بشراسة وفوجئ السادات خلال زيارته الكويت، كما يقول أحمد بهاء الدين فى «محاوراتى مع السادات»، إن أحد كبار الكويتيين يتقدم إلى السادات ويقول له على مسمع من الجميع خلال مأدبة العشاء التى كان يحضرها بهاء: يا سيادة الرئيس، نحن لا نقبل أن يقال فى مصرإن جمال عبد الناصر اختلس، وأنا شخصيا ويشهد كل الواقفين كنت ضد جمال عبد الناصر، لكن أن يقال إن جمال عبد الناصر اختلس، فهذا عار على الأمة العربية كلها التى كان جمال عبد الناصر شئنا أم أبينا رمزا لها فى العالم كله، إننى أطلب من سيادتك أن تقول لنا أى مبلغ ترون أنه فى ذمة جمال عبد الناصر للخزانة المصرية، وسوف ندعو الشعب الكويتى للتبرع به وتسديده عنه، وسيجمع الشعب الكويتى أى مبلغ فى أقل من 24 ساعة، وأسقط فى يد السادات!.
ولكن البراءة جاءت من المخابرات الأمريكية، التى قالت على لسان رجلها يوجين جوستين: إن مشكلتنا مع ناصر أنه رجل بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه، نحن نكرهه، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئا لأنه بلا رذيلة.
إن مشكلة عبد الناصر الحقيقية أنهم كلما ظنوا أنه مات يبعث من جديد أشد وأقوي.. وليس أدل على ذلك من أن كل ثورة أو مظاهرة للفقراء تكون صورة عبد الناصر فيها كافية جدا للتعبير عن مطالب الجماهير، خاصة فى العيش والكرامة.
وهو ما جعل لأسطورته معنى لا يغيب مهما غاب صاحب الأسطورة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.