العدل اسم من أسماء الله الحسنى، والإنسان خليفة الله فى الأرض وهو مطالب بأن يكون عادلا.. وفى صدر الإسلام سعد الناس بحكم الخلفاء الراشدين.. هؤلاء الذين كانوا راشدين فى الرأى وفى الحكم وفى التطبيق حيث اتخذوا العدل طريقا مستقيما يسيرون على هديه لكن الحال لم يستمر طويلا بسبب النزاع على الحكم كما يحدثنا التاريخ وبحسب «مقتضى الحال» سواء كان حال الحاكم أو المحكومين. ودعونا نقفز إلى الزمن الحالى حيث التاريخ لا يكتبه دائما الطيبون أو المحايدون وإنما هو أيضا يخضع للأهواء.. لنلجأ إذن إلى التاريخ الحىّ المعاش والمنظور بالعقل وبالعين وبالتجريب، كان مفهوم «العدل» عند الناس هو إعطاء كل ذى حق حقه بمعنى الوضوح فالحق بينّ والظلم بينّ وإن كان بينهما متشابهات. وحين كان العدل يغيب فى بلد ما.. لنأخذ مصر مثلا أيام الاستعمار الإنجليزى القريب والذى كان فى اعتبار المصريين «ظلما» و «قهرا» حيث العدل غائب لكنه موجود فى مكان ما فى بلد ما.. لدى حاكم ما.. فكانوا دائما يتطلعون فى انتظار وصوله.. وظل ذلك الانتظار حيا ومأمولا إلى أن رحل الإنجليز وجاءت الثورة عام 2591 ممثلة للعدل فآمن بها المصريون وهللوا لها وعاشوا فى ظلالها إلى أن جاءت النكسة أو الهزيمة والتى اعتبروها ظلما وعادوا يتطلعون إلى العدل.. وظهرت أمريكا وروسيا قوتين فى العالم.. الأولى رأسمالية تؤمن بالفرد على حساب المجموع والثانية تؤمن بالمجموع على حساب الفرد.. وأثبتت التجربة أن كليهما ظالم.. لكن أمريكا المنتصرة فيما بعد أصبحت هى القائدة أو هى الدولة العظمى فى العالم.. قوة وحكما وتأثيرا وتطلع الناس إليها فقد حدث وللمرة الأولى أن يصبح العالم كله منظورا على تلك الشاشة السحرية المسماة «التليفزيون» ولم يكونوا قد شاهدوه من قبل وإنما سمعوا عنه «وليس من سمع كمن رأى» لقد رأوا العالم كله بحكامه ومحكوميه أمامهم حيا متحركا فأخذوا يبحثون عن «العدل» الذى كانوا يظنونه موجودا لدى الدولة الكبرى فى العالم والتى هى أمريكا فلم يجدوه حيث أتيح لهم أن يروا تلك الدولة الكبرى تحارب وتقهر دولة صغرى طيبة اسمها «فيتنام» ولم يدم كفرهم بالعدل طويلا إذ هزمت أمريكا من هؤلاء الفلاحين الصغار فعاد مفهوم العدل إليهم من جديد مع انتصار فيتنام. ثم مرت السنين واندحرت الشيوعية وانتصرت أمريكا وعاد الأمل وظهرت «داعش» الدموية تحلم بالخلافة الأرضية وبالعدل.. من وجهة نظرهم.. واشتعلت الحروب فى الشرق الأوسط بعد أن أشعلتها أمريكا ثورات فى كل دول المنطقة سمتها «الربيع العربى» فأساءت بداية إلى فصل الربيع المشرق الجميل.. ثم أثبتت التجربة أن تلك الدولة الكبرى.. القائدة والحاكمة للعالم أثبتت التجربة أنها «مخادعة» وأنها تظهر غير ما تبطن وأنها تعانق الدول الصغيرة بينما هناك خنجر مختف يهم بأن يغرز فى الظهر. ولنقفز قفزة أخرى إلى شهر أغسطس 7102 حين جمدت أمريكا مبلغ 192 مليون دولار من المعونة الأمريكية المقدمة لمصر بسبب ما أطلقت عليه تراجع حقوق الإنسان فى مصر! وذلك رغم ما أطلق عليه «شهر العسل» بين الدولتين منذ تولى ترامب الحكم.. يجىء هذا الخبر كصدمة غير متوقعة وفى وقت مؤلم تحتاج فيه مصر وقفة الصديق ممن يدعون الصداقة. هنا يحار الناس عن مفهوم العدل ومفهوم الصداقة ويجران وراءهما مفاهيم أخرى كثيرة نابعة منهما كالوفاء والتعاون والصدق وو.. الخ.. تسقط.. إلى حين.. سلسلة طويلة كانت متماسكة من القيم تؤثر فى المجتمع بلا شك سواء فى الفكر أو فى التعامل أو فى تماسك المجتمع نفسه.. فما أن يسقط مفهوم العدل حتى تتهاوى كل القيم ويحل الشك والريبة وعدم الثقة فى الآخرين. المعروف أن الحاكم عادل بقدر ما ينفع بلده والقاضى عادل بقدر ما يطبق أحكام القانون ورجل الدين عادل بقدر ما يضىء ضميره وبقدر ابتعاده عن الغش أو المصلحة الخاصة أو استغلال الناس.. والمدرس عادل بقدر عطائه وليس أخذه وكل راع مسئول عن رعيته فالعدل ليس كلمة مجردة أو مثالا من المثل العليا محفوظا فى برج بعيد ولكنه فى يد أولى الأمر الذين يؤثرون فى الآخرين. هؤلاء هم «العادلون» الذين يعرفون والذين يفهمون والذين يوجهون والذين هم مسئولون أمام أنفسهم أولا لا أمام الله وحده والذين هم إما مصلحين فى الأرض.. أو مفسدين. لمزيد من مقالات بهيج اسماعيل;