كلما نظرت إلى كيفية إدارتنا لأسلوب الحياة بين طبقات المجتمع الذى عايشته منذ بداية الوعى وحتى الزمان الحالى تنتابنى دوامات من الدهشة الممتزجة بالترحيب بكل جديد مع التوجس من أسلوب نظرة هذا الجديد للواقع والمستقبل، فأى تغيير فى شخصيات الوزراء أو كبار رجال الإدارة فى المواقع المختلفة قد يتبعه تغير فى كيفية النظر إلى ما نعانيه من مشكلات أو قضايا. و تأتى إلى الذاكرة الآن حالة الزهو المندفع فى تقييم ما مضى ؛ قد تتسبب فى محاولات نسف أغلب ما كان من قبل التغيير فى محاولة لإعادة تشكيل الواقع على هوى رجل القيادة الجديد. وبالطبع تتزعزع ثقة العاملين فى أنفسهم ويرقبون ميلاد شلة المسئول الجديد. ومازالت الذاكرة تحتفظ بلحظة تسليم منصب رئيس مجلس إدارة روز اليوسف من الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس إلى السيد أحمد فؤاد الذى عرفناه رئيسا لمجلس إدارة بنك مصر وقيل عنه إنه المدنى الوحيد فى تنظيم الضباط الاحرار. وفى أول اجتماع له معنا نحن المحررين الشباب ؛ طلبت زميلة لنا الكلمة ونزلت نقدا غير قابل للتصديق فى إحسان عبدالقدوس، ووسط كلماتها طلبت بصوت عال الإذن بمغادرة الاجتماع فسألنى السيد أحمد فؤاد عن السبب فقلت لا اطيق سماع مالا يليق وغير حقيقى عن رجل لم يعلمنا فقط علمنا بل جعل كل منا قادرا على ان يخطو إلى المستقبل بوضوح، وعلمنا كل التفاصيل، فطلب أحمد فؤاد مشكورا من الزميلة مغادرة الاجتماع نظرا لأن ما تقوله غير حقيقى فضلا عن أن إحسان عبدالقدوس يتولى منصب المشرف العام على التحرير لكل مطبوعات دار روز اليوسف بعد تركه منصب رئيس مجلس الإدارة. وخرجت الزميلة وسط دموعها وتصفيق الحضور. سألنى أحمد فؤاد بعدها لماذا كنت حادا؟ أجبت «ستخرج يوما من منصبك هنا وساذكر لاى من يأتى بعدك على سبيل المثال أنك وضعت نظاما للعلاج الصحى ولم تنتبك كما قال كاتبنا الساخر محمود السعدنى شهوة الكتابة واكتفيت بقدرة الإدارة, وذكرت له ان محبتى لثورة يوليو لا تمنعنى من الاعتراض بينى وبين نفسى على أن أحد أعضاء مجلس الثورة يقود مسئولية التعليم هو السيد كمال الدين حسين ولا يستفيد مما تركه طه حسين من ميراث فى إدارة التعليم، فألغى معهد التربية العالى الذى يدرب المدرسين كيفية التدريس وفنون التعامل مع الطلبة على ضوء حقيقة وسمات سمعتها عن مراحل الشباب؛ فكل شاب يحتاج إلى من يبادله الحب ويتيح له المجتمع فرصة التخلص من السذاجة والاندفاع والمبالغة وطلب المثالية فى كل التفاصيل رغم استحالة ذلك وقد علمنى تلك الحقائق الأستاذ الدكتور سعد جلال استاذ علم النفس الكبير. وقال أحمد فؤاد «من أخطاء 23 يوليو هى عدم تقييم مافات من تجارب اجتماعية وسياسية.فبدا تعاملنا مع أى قضية وكأننا نبدأ حكاية جديدة من أول السطر. ووافق لحظتها على رجائى بالقيام بإجراء حوار مع المليونير محمد فرغلى الذى كان يقال عنه قبل ثورة يوليو «ملك بورصة القطن». وقد أعلن الرجل فى الحوار أنه كان يتوقع ثورة يوليو لأن طبقة أثرياء البلد قبل يوليو غرقوا فى الجشع ولم ينتبهوا إلى أن أجيالا جديدة قد جاءت وتطلب حقها فى الحياة، بينما اثرياء مصر يحلبون الوطن إلى آخر قطرة فيه. وبعد نشر الحوار قرأت فى الصحف خبر تعيين المليونير محمد فرغلى رئيسا لمؤسسة القطن وهو من درب العديد من الرجال على فنون التعامل مع بورصات العالم فى هذا المجال. قال لى أحمد فؤاد «لك أن تستمر فى نقد مالا يروق لك وتنبه إلى سمات إيجابية فيما كان من قبل ثورة يوليو، مع إيماننا المشترك بأن المسافة من ثورة 1919 وحتى ثورة يوليو 1952 قد ازدحمت بالخطايا ، لكن كان الفرز عملية مهمة لتجميع الإيجابيات ممثلة فى أشخاص أصحاب التجارب الناجحة هو أمر جوهري. وطبعا مع جمال عبدالناصر لم يكن هناك وزير يأتى لمنصبه ليسير بأستيكة على خبرات من قبله؛ فالكل يكمل من كان قبله ؛ وكانت مكاتب الرئيس المتعددة تقدم لكل وزير إيجابيات من كان قبله وما المتوقع منه، لكن الرئيس السادات سار بأستيكة على أغلب ما فعله جمال عبدالناصر وكأن مصر تبدأ معه تاريخها من أول السطر. والأمر الوحيد الذى لم يلمسه السادات هو أمر القوات المسلحة، اللهم إلا فى اختيار توقيت القتال بالإمكانات الموجودة فى أكتوبر 1973 لكن كل ما عدا ذلك كان بدايات من أول السطر. ومن فوهة ادعاء احترام العلم ترهل التعليم ومن فوهة ادعاء الإيمان خرجت ثعابين التأسلم؛ ومن كراهية الرأسمالية القديمة خرجت كراهية القطاع العام، حتى جاء الانفتاح بجرائمه وأخطرها تفكيك المجتمع فصارت الرؤية واضحة من تقزيم الطبقة الوسطى منذ عام 1977 وعندما اغتيل السادات فى ذكرى انتصار أكتوبر بقى فى الذاكرة ما قاله لى الأسطى أنس «ملك سمكرة السيارات» من لم يسرق فى عهد السادات فقد ضاعت فرصة عمره». ولم يتوقع أن يكون من بعده مبارك الذى آمن بحكاية كعكة العسل، حيث تتم تربية طبقة رجال أعمال تتكون لديهم ثروة يهبط بعض عسلها على بقية المجتمع. وطبعا تم تقزيم كل ما سبق تمهيدا لإفساح الطريق لجديد المجتمع كأحلام فى خيال مبارك، حدث هذا بينما كانت إسرائيل على سبيل المثال لا تستغنى عن تجاربها السابقة وخبرة شيوخها مثل شيمون بيريز الذى أسهم فى ميلاد فكرة الشرق الأوسط الجديد تلك التى كبرت إلى حد التوحش فطلبت أكل الأخضر واليابس من افكار العروبة والعدالة وظهر ذلك فى قدر الثروات المهربة من مصر وبلدان العرب، فتساقط عسل الإيمان برجال الأعمال مضافا إليه عسل ثروات البترول لمزيد من التقدم للغرب ومزيد من القهر فى بلدان العروبة؛ إلى أن انفجر إناء بشرى ضخم يرجو حق الحياة فى الخامس والعشرين من يناير، هذا الحق الذى تمت سرقته مرتين، الأولى بتهريب الثروات خارج الحدود والثانية بقبول الصراع المغشوش، صراع المذاهب والأديان والطوائف، وكان سجن أبو غريب بالعراق هو معمل لتطوير أساليب تنظيم القاعدة ليولد بما جرى فيه من وحشية نموذج داعش. وطبعا كان المتأسلمون يرغبون فى إعادة صياغة الحياة فى مصر وتونس من أول السطر وبكيفة تضمن تبعيتنا لأردوغان، فتمرد المصريون ليلقوا بالمتأسلمين من حالق السلطة وحاول المجتمع بقيادة القوات المسلحة أن تكون البداية بصفحة جديدة؛ لكن السطر الأول كان هو استقلال القرار السياسى المصري، وهو سطر لم يعجب الولاياتالمتحدة التى رسمت مع إسرائيل وتركيا والمتأسلمين خريطة تمزيق المجتمع المصري. باختصار كارثة البدايات من أول السطر يجب أن تتوقف، ولذلك لابد من تأصيل ما نملك ونطور فيما نحن فيه ليكون المستقبل لنا , فخطايا الحياة من أول السطر جعلت حياتنا معسكرا عشوائيا يحتاج إلى رحلة جرد عام يمكن أن يوصى بها ويقدم عليها د. مصطفى الفقى عبر مكتبة الإسكندرية لمزيد من مقالات منير عامر