قررت الولاياتالمتحدة إرجاء وإلغاء مساعدات كان مقرراً حصول مصر عليها تبلغ قيمتها نحو 290 مليون دولار، وتضمن القرار الأمريكى ثلاث حزم من هذه المساعدات، أولاها 30 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية، وثانيتها 65.7 مليون دولار من المساعدات العسكرية، كانت مجمدة بقرار للكونجرس من ميزانية 2014 وكان مقرراً حصول مصر عليها العام الحالي، تم إلغاؤها، فضلاً عن نحو 195 مليون دولار من الحزمة الثالثة وهى نحو 15 بالمائة من المساعدات العسكرية ثم إرجاء تسلم مصر لها. القرار الأمريكى المذكور بررته الدوائر الرسمية الأمريكية باتهامات لمصر بخصوص التعامل مع الجمعيات الأهلية واحترام حقوق الإنسان، وسربت دوائر أخرى أسباباً إضافية لعدم مشاركة مصر فى الحصار الأمريكى على كوريا الشمالية، ومن الواضح أن هذا القرار يعكس موقفاً لوزارة الخارجية ووزيرها وكذلك تماشياً مع مواقف بعض أعضاء الكونجرس الذين لهم مواقف مضادة لمصر طوال سنوات طويلة. وقبل مناقشة أبعاد هذا القرار، من المفيد الإشارة لعدد من الاعتبارات التى حكمت العلاقات المصرية الأمريكية فى السنوات الأخيرة، وطبقاً للمساعدات الأمريكية لمصر والإطار الذى يحكمها، ومن أهم هذه الاعتبارات أن هذه العلاقات ومنذ سنوات طويلة لم تكن ثنائية طبيعية ولكن كانت هناك قضايا تمس أطرافا أخرى تتشابك مع هذه العلاقة وتؤثر فيها. كما أن المعونة الأمريكية لمصر سواء الاقتصادية التى تعتبر رمزية إلى حد كبير وكذلك المعونة العسكرية يحكمها إطار لمصالح متبادلة استفادت منها الولاياتالمتحدة ولا تزال، كما استفادت منها مصر، وارتبط جزء من هذه المعونات بالمسئولية الأمريكية فيما يتعلق بالأبعاد المختلفة لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. إن جوهر العلاقات المصرية الأمريكية لسنوات طويلة كان عسكرياً وأمنياً، وقد حرصت الولاياتالمتحدة على وضع سقف تكنولوجى لمساعداتها العسكرية لمصر بحيث لا تؤثر على التفوق النوعى للقدرات العسكرية الإسرائيلية. كما أن الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان فى أحيان كثيرة لم يكن حديثاً صادقاً ولكنه كان مبرراً وغطاء لأهداف مستترة، فعلى سبيل المثال تم تجميد نحو 65 مليون دولار من المعونة العسكرية عام 2014 ويا للسخرية بدعوى أن مصر وهى تحارب الإرهاب فى سيناء لم تحترم المعايير الخاصة بحقوق الإنسان فى تعاملها مع الإرهابيين. كما أن نجاح مصر فى تنويع مصادر السلاح والحصول على تكنولوجيا عسكرية أكثر تقدماً غير محكومة بالسقف الذى تفرضه المعونة الأمريكية، قد أثار قلق الدوائر المرتبطة بمؤسسات التصنيع العسكرى الأمريكية وبالتالى جاءت هذه الضغوط، ومن المرجح أن نجاح مصر فى استعادة الكثير من عناصر التأثير والحضور الإقليمى وممارسة سياسات مستقلة فى بعض الملفات لا تتفق مع الرؤية الأمريكية الملف السورى والملف اليمنى والملف الليبى على سبيل المثال يدفع بعض الدوائر الأمريكية لاتخاذ مواقف غير إيجابية عن مصر، كما أن العلاقات العسكرية والاقتصادية المتطورة مع روسيا والصين تمثل نوعاً من الإزعاج والاهتمام وتراها بعض الدوائر الأمريكية خصماً من العلاقات مع أمريكا، وهو أمر يجب التعامل معه والعمل على تدارك سلبياته وتأكيد استقلالية القرار المصري. وهناك دوائر فى وزارة الخارجية الأمريكية لا تزال تتبنى استراتيجية التغيير السياسى فى منطقة الشرق الأوسط من خلال دعم تيار الإسلام السياسى وهذه الدوائر تتخذ ضد مصر مواقف غير إيجابية. تكشف هذه الاعتبارات عدم وجود سياسة واضحة تتفق عليها دوائر صنع القرار الأمريكية للتعامل مع مصر وأن هناك نوعا من الارتباك وازدواجية المواقف، حيث لا يتفق هذا الإجراء مع العلاقات الدافئة بين الرئيس الأمريكى والرئيس عبدالفتاح السيسي، ولعل مبادرة الرئيس الأمريكى بالاتصال التليفونى عقب صدور هذا القرار تكشف عن ذلك بصورة واضحة. وفى محاولة لفهم الإجراء الأمريكى وأبعاده المختلفة فمن الضرورى الإشارة إلى أن المبلغ الذى تم إلغاؤه أو الذى تم إرجاؤه لا يرتب تأثيرات سلبية كبيرة، ويبقى الإجراء فى حدوده الرمزية، وفى تقديرى أن ذلك لا يعكس تغيراً استراتيجياً فى السياسة الأمريكية تجاه مصر، فالشروط التى وضعت على المبلغ الذى تم تجميده أو الذى تم إرجاؤه غير واضحة أو محددة، وهو ما يسمح بالحوار لإعادتها. كما أنه من الضرورى الإشارة إلى أن استمرار المعونة العسكرية تحديداً يمثل مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة تحقق من خلالها الكثير من المصالح، وتستفيد منه مصر بالضرورة، وإن كان مطلوباً أن تكون هناك دراسات جادة وعميقة لمعرفة إذا كانت هذه المساعدات أو المعونة العسكرية قد رتبت آثاراً تراكمية فيما يتعلق برفع قدرات القوات المسلحة المصرية، وهل تحتوى على عوائق ينبغى النظر فيها، خاصة بعد إعادة هيكلة هذه المساعدات وأوجه إنفاقها. ولعل من المفيد على هذا المستوى تأكيد ضرورة التعامل مع القرار الأمريكى بهدوء وعقلانية بعض التعامل الإعلامى معه لم يكن على المستوى المطلوب- ولندرك أن هناك تفاوتا واضحا مع نظرة كل طرف لهذه المساعدات، وبالتالى فإن الحرص على ضبط التوتر فى العلاقات الثنائية بين القاهرة وواشنطن يمكن أن يفوت الفرص على الدوائر التى لاتزال ترتبط بفكر الإدارة الأمريكية السابقة، والتى تمارس نوعاً من النفاق السياسي، وتركز على ضرورة الالتزام المصرى بما يسمى المعايير الخاصة للديمقراطية وحقوق الانسان رغم أن هذه المعايير التى تزعمها لم تظهر فى علاقة الولاياتالمتحدة بتركيا وغيرها من الدول التى تشهد تجاوزات كبيرة على هذا المستوي. ولا شك أنه رغم كل ما سبق، يجب أن تسعى مصر لاستيعاب سلبيات الموقف الأمريكي، ومحاولة تحصين العلاقات الثنائية كضرورة حتمية، وأن يتم تفعيل حوار استراتيجى بصورة جديدة يشمل جميع مؤسسات الدولة، ومستويات مجتمعية متعددة، وأن تضع مصر على مائدة هذا الحوار مصالحها الاستراتيجية من هذه العلاقة، ولعل الفرصة ستكون مناسبة خلال حضور السيد الرئيس للاجتماعات السنوية للجمعية العامة للامم المتحدة لإجراء حوارات مكثفة مع دوائر صنع القرار الأمريكية المتعددة. لمزيد من مقالات د. محمد مجاهد الزيات;