فى روايته الأخيرة «صخرة بيتهوفن» حشر الأديب «محمد داود» بخفة ظِلّ 17 عشر راكبا فى ميكروباص. كأنه الدنيا، وهم الهائمون على وجوههم فى متاهتها، تحت ضغوط لا تقل عن معاناتهم فى الحياة. لا يعرفون إلى أين سينتهى بهم الحال، ولا متى تخف آلامهم. ويتنقل برشاقة، وسخرية موجعة بين مصاعبهم، وتركيباتهم النفسية العجيبة، وتعقيدات مشاكلهم، وبين حشرتهم فى مقاعد تضاعف تململهم. بانتظار وصولهم إلى مقاصدهم. لكن الحال ينتهى ب «الميكروباص» إلى حادثة تصادم، لا يموت فيها أحد، لكن الاشتباكات الناتجة عنها تؤدى إلى قتل أحدهم بشكل مفاجئ، ليجد الجميع أنفسهم أمام دم، وروح أزهقت ببساطة مؤلمة، ومصيبة لم تخطر لهم على بال، وكأن لسان الحال يقول لهم هازئا «بِك همّ ولَّا أزيدك». وبينما المسافة التى تقطعها السيارة بالكيلومترات ليست بعيدة، تبدو تفاصيل المواجع بداخلهم بلا نهاية، حيث يكشفها الراوى العليم عبر تجوله بين الركاب، الذين اكتفى بوصفهم من دون تسميتهم، فهذا«رجل الرصيف»، وتلك «ذات القفَّة»، وذاك«الفتلة»، و آخر نعته ب«الصاعق»، وغيره «الفلاح»، وكأنهم جميعا «نكرات» لا يوجد من يهتم لأمرهم، أو يخفف عنهم، فى واحدة من مسارات المشقة الأبدية. من يقرأ أعمالك من أول رواية «قف على قبرى شويا» إلى «صخرة بيتهوفن» يرى أنك تعتمد السخرية لتخفيف وطأة آلام الناس.. فهل هو محض إشفاق منك على المتلقى أم حنو عفوى على شخوصك، والتكرار هنا ينفى عفوية الأسلوب ويؤكد عمديته؟ السخرية سمة أسلوبية لغويًا وسرديًا عندي، ووظائفها متنوعة حسب السياق، أحاول تطويعها فنيًا، وقد يكون من وظائفها تخفيف وطأة الألم، أو التعاطف مع الشخصية، واستعمل بعض تقنياتها كالمفارقة مثلًا فى الحيل السردية، وغالبًا يحدث هذا كله بلا قصد، وهناك علاقة جدلية بين الخصائص الطبيعية للكاتب وخبرته السردية، فبقدر أن السخرية مكون طبيعى لشخصيتى الفنية لابد أن هناك تراكما ما فى الخبرة بها قد يجعل السيطرة عليها كأداة فنية أيسر بكل عمل عما قبله. أحسست أن الميكروباص فى «صخرة بيتهوفن» هو الدنيا، ورُكَّابه هم البشر الحائرون فى متاهتها، كل منهم غارق فى همومه لا يتحمل مشاكل غيره، وباتت لديهم جاهزية للاشتباك والتناحر، لينتهى بهم الحال إلى الاصطدام وانقلاب السيارة.. أليس ثمَّة أمل بانفراجة، أو بحلحلة تعقيدات الحياة؟ لكل كاتب قضايا تشغله وطرق مفضلة للمعالجة، وفى تقديرى أن مجرد تجديد الدهشة إزاء أشياء فقدنا الشعور بها يكفى كمهمة للأدب، هذا لا ينفى أن يتبنى كاتب ما أية مهام أخري، لعل المسألة أن لرواية «صخرة بيتهوفن» مجموعة رؤى بمستويات مختلفة، لعل منها ما يتعلق بالمكروباص كوسيلة انتقال، هذا الطرح فى ذاته مطلوب، ولو بمنطق دعنا نفكر فيما اعتدنا عليه بلا تفكير ولا نقاش، كاعتمادنا الكثيف على هذه الوسيلة فى الانتقال. ناس الرواية كلهم بلا أسماء، بل أوصاف «رجل الرصيف»، و«ذات القفَّة»، و«الفتلة»، و «الصاعق»، و«الفلاح»، وغير ذلك، فكأن تعاطفك معهم لم يكن كافيا لنقلهم من «النكرات» إلى مستوى «المعروف باسمه»؟ ألا تكفيهم همومهم؟ عادة لا أحد يعرف اسم من يركب جواره فى مواصلة عامة، خاصة لو كانت ميكروباص، رغم التجاور، والمصير المشترك مُدّة التوصيلة، لكن عدم تسمية شخصيات «صخرة بيتهوفن» هادف ومناسب فنيًا، لأنه جزء من الحالة، فكل فرد مختزل إلى صفة ما فقط، وفى هذا إشارة للانتقاص من الإنسانية فيما ترصده الرواية من عالمهم. أبطال روايتك يتمتعون بأخلاق الزحام، من التسابق والخطف، إلى التشاحن والغضب والتشاتم لأهون سبب، بل والقتل بسهولة كما رأينا، أهذا طارئ يمكن إصلاحه بزوال الضغوط المسببة له، أم أن ما فسد لا يمكن إصلاحه؟ فى «صخرة بيتهوفن» 17 شخصية فى حيز ضيق وضاغط، والرواية حاولت أن تعكس من وجهة فنية «زنقتهم التى تتحول إلى موقف وجودي»، وطبيعة الأدب كاشفة؛ وبدون اقتراح حلول، فقُصاراى هو رصد ما تيسر من منابع الألم الإنسانى انطلاقًا من الواقع أو انتهاء إليه، ولكل قارئ أن يتفاعل بالكيفية التى تناسبه. بجانب تعاطفك مع أبطال كل أعمالك، وتلطيفك لأغلاطهم، تتساهل أيضا فى الصياغة، وتخلط العامية بالفصحى فى مزاوجة يبدو أنك تصر على ترسيخها.. ألا تخشى أن يمل القارئ من هذا خاصة مع خط السخرية الدائم لديك؟ أجتهد لتكون كل رواية لى مختلفة من حيث الموضوع والشخصيات والأسلوب الفني، هذا تحد أساسى ودائم، أما الأسلوب اللغوى والسخرية فمن أدواتى فى تشييد العالم الروائي، ولكل كاتب طريقته، وتميز الأسلوب مسألة إيجابية، وهذه أدوات وليست العمل نفسه، لو كان للملل أن يحدث من الأدوات لكان أولى بنا أن نمل من حروف اللغة وكل شيء مكتوب إنما هو بالحروف التسعة والعشرين فقط، ولى تجربة وحيدة حتى الآن فى السرد بالعامية هى رواية «بار أم الخير»، باقى أعمالى مكتوبة بالفصحى تمامًا، حتى الحوار، أما القول بأنى أخلط العامية بالفصحى فمسألة تحتمل النقاش؛ إنها متعلقة بفهمنا لحدود الفصحى والعامية، والفروق بينهما، وهذا الأمر يطول الكلام فيه، لكنى لا أتعصب لأى من اللغتين ضد الأخري، إنهما عندى كالشمس والقمر، لدى حساسية خاصة فى استعمال كل منهما وصولًا للغايات الفنية، وهذا ينعكس على الأسلوب، بحيث يمكن القول إن النتيجة أو الغاية هى بث الحيوية وروح العصر فى الأسلوب. ألا تتفق معى أن استخدام اسم الموسيقار العالمى «بيتهوفن» بإيحاءاته الموسيقية فى العنوان يعطى انطباعا رقيقا، مع أن الرواية تغطى عالما خشنا، ألا يبدو غريبا على «دنيا الميكروباص»، أم أنه خداع مقصود؟ لم أقصد ذلك لأول وهلة من اختيار العنوان، ولا شك فى وجود مفارقة بين دلالات الصخرة وبيتهوفن.و عنوان العمل الأدبى عمومًا منطقة اشتباك بين القارئ والنص والعالم والكاتب. وأحد أهم شخصيات الرواية شغوف بالموسيقى ويسمع مقطوعة لبيتهوفن فى وقت ما من الأحداث، وهناك بين السطور وجهة نظر فى التلقى الموسيقي، ولعل المراد هو صخرة القدر، ما أكثر ما لا نختاره ولا يمكن تجنبه ويؤثر بشدة على حياتنا، ولبيتهوفن تاريخ مشهود مع القدر الذى سلبه السمع وهو الموسيقار، يقال إن القدر موضوع سيمفونيته التاريخية الخامسة، يقال مقدمتها طرقات القدر على أبوابنا.