وأنا أقرأ رواية محمد داود الأخيرة «صخرة بيتهوفن» (دار ميريت – 2017), أو وأنا أقرأ أعماله عموماً, ترن فى ذهنى عبارة قالها الشاعر العربى القديم «ابن مقبل»: ما أطيب العيش لو أن الفتى حَجَرٌ/ تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ تلك ليست أمنية بطل الرواية وحده, الذى يسميه داود «جالس الرصيف» ولا اسم له غير ذلك, والذى يُسِرُّ لصديقه برغبته فى أن «يتجمد تمثالاً». بل هى أيضاً رغبة تلح على قارئ الرواية, بل وقارئ محمد داود منذ روايته الأولى «قِف على قبرى شوية»: رغبة التحول إلى حجر, لعل ذلك الألم الإنسانىّ الرقيق كشفرة الموسى يلطُف بالقلب ولا يخمشه فى كل صفحة. ولا أعنى ذلك الشجن الرومانسى لأغانى الحب وحكاياته؛ بل ذلك الرادار المتعاطف الحنون فى قلب يرصد آلام البشر ويتوجع منها ويحكيها فيوجع قارئه, حتى وإن كان يسخر ويتهكم وهو ينقل لك ما رصده. ذلك أن حكاية داود تثير السخرية, جنباً إلى جنب مع تنهدات التعاطف الإنسانى. إنها حكاية مجتمع يكثفه داود فى ميكروباص متكدس بأوجاع المصريين, وبما وصل إليه بعضهم – للأسف – من انحطاط, وما ينتجه ازدحامهم وتكدسهم نفسه من أخلاق ليست أصيلة فيهم, فنرى المتزاحم يطلب الركوب (الخلاص) بأى ثمن, حتى إن أبدى أثناء ذلك أنانية وقسوة بل ونذالة ليست – أو لم تكن – طبعاً متأصلاً فيه, وقد يندم عليها بعض الراكبين («جالس الرصيف» مثلاً) بمجرد نجاحه فى الحصول على مقعد. ولكن مَن «جالس الرصيف» هذا, ولماذا أعطاه كاتبه هذا الاسم؟ الرصيف هنا رصيف موقف الميكروباص, وهو الإطار الخارجى, الهامش الذى يلزمه الإنسان المتفرج, المتأمل بطبعه. و«جالس الرصيف» هنا إنسان مثقف, دارس للفلسفة تشغله التأملات ولا يميل للتلاحم مع محيطه الخارجىّ, فيلزم الرصيف فى «الموقَف» ولا يقوم منه, وإن قام أخيراً فإنه يمشى ويركب مغمض العينين مستسلماً للتيار. وهو فيه تلك الخِصلة - التى ربما تعذب داود نفسه كما يتضح من أعماله: رهافة فى الحس تجعله يتمنى أن يصبح تمثالاً من حجر. ويشكل كاتب الرواية تلك النعمة/ الآفة كاريكاتورياً حين يجعل «جالس الرصيف» لا يكتفى بعزل نفسه عن محيطه بوضع سماعة فى أذنيه تتدفق منها الموسيقى طوال الوقت, بل يقوم فى المشهد الافتتاحى للرواية ويتوجه لإحدى الصيدليات يشترى منها قطناً وشاشاً يضعهما عازلاً بين عينيه وعدستى نظارته, ليحكم عزلته تماماً فتشمل حاستى السمع والبصر, إضافة لعقله الغائب فى ملكوته الخاص. وحين تنتهى رحلة الميكروباص بجريمة قتل, حيث تنغرس مطواة أكثر الشخصيات وحشية وشراسة فى صدر أكثر شخصيات العمل رقة ووداعة وكرماً – حين تحدث تلك الفاجعة النهائية, يعطينا الكاتب إشارة توحى بأن «جالس الرصيف» –الوحيد الذى يعرف كيفية الوصول للقاتل الهارب – لن يقوم بإبلاغ البوليس عن الشخص الذى يمكن أن يقود الشرطة للقاتل, ف«جالس الرصيف» فى مشهد النهاية, بعد أن خلع سماعة الموسيقى من أذنيه, وأزاح القطن والشاش عن عدستى نظارته أمام هول المشهد الذى انتهى بالفاجعة, يعيد تركيب السماعة فى أذنه و إسدال ستار الموسيقى بينه وبين محيطه المنحط والمحزن, مادام لا يستطيع أن يستحيل تمثالاً من حجر! الرواية تسخر من «جالس الرصيف» وتدينه وتتعاطف معه وتتوجع له فى نفس الوقت, وذلك دأبها مع كل الشخصيات تقريباً: الشاب والفتاة, عصفورا الكناريا الجالسان متشابكىْ الأصابع فى خفاء صف المقاعد الأخير؛ «وذات القفة» حيث تجتمع البطولة والنذالة فى شخصية الأم الريفية التى حولتها الحياة إلى بهلوان لتربى ابنتها اليتيمة الطالبة بكلية الصيدلة, فهى خليط من اللصة والأم المثالية؛ وِ«معقود الملامح» الذى يستمع إلى باطنه الموشك على الانفجار فى أية لحظة, أو هكذا يظن ذلك الموبوء بالوساوس وأوهام المرض؛ «والفتلة»: وكيل المدرسة القبطىّ الذى يعانى من الغربة فى مجتمع يسوده الهوس الدينى بتلك المدينة الإقليمية؛ ثم أخيراً «الصاعق», واسمه «حماصة», ذلك البلطجىّ الذى يقتل «حمدى» الفلاح الوديع. الرواية مكتوبة بشاعرية وبحس فكاهى معاً. وهو مزيج نادر جدير بالقراءة, حيث العجب الباعث على البسمات, وذلك التكثيف والتقطير لآلام الإنسان, المصرى خصوصاً, الموجع فى رهافته, كالنصل أو كمبضع الجراح, الذى يجعل القلب يتمنى لو كان من حجر! لمزيد من مقالات بهاء جاهين