تصوير: موسى محمود - لاشك أن ثورة 25 يناير هى ثورة ذات طابع عفوى مرح شديد الإصرار، سلمى بطولى استثنائى يقوم على صيغة جديدة للبطل، إذ يغيب البطل الفرد، وتتجلى البطولة الجماعية للأفراد المصريين فى استيقاظ عميق للروح المصرية مما تجلى فى الصياغة الدرامية ثم التعبيرية ثم الاحتفالية لمشاهد الثورة المصرية، ولعل تلك الصياغة الفنية العفوية المبتكرة التى صاحبت الأداء اليومى لها، لهى الدليل الأصيل على روح الثقافة المدنية للثورة المصرية، فقد بدأت بجيل جديد هم كل هؤلاء الجدد المبهجين الطازجين الذين استخدموا الإنترنت، و الذى يحرص جيلى ومن قبله على تسميته بالشبكة الدولية للمعلومات، بينما يسمونه هم اختصارا «النت». لقد تخلص هذا الجيل من أعباء المسئولية الشكلية، وعدد من الضغوط الاجتماعية، وليست مثاليتهم استشهادية مثلنا ولم يأخذهم أحد غدرا من أخلاقهم النبيلة، ليسوا كفرسان الكتب المقتولين غدرا بلا طائل، وليسوا كمثقفين إدمان الحزن المعتق القادم من توالى انكسار الأحلام. لذلك بدأت ثورتهم بطابع فنى شديد السخرية، عار تماما من الخجل على «تويتر» تجد مئات «الكليبات» هى لأغان معاد صياغتها كانت تسخر من رموز الحكم المنهار، ومئات المشاهد التمثيلية المعاد تصنيعها بطريقة برامج «الفوتومونتاج»، وهى برامج منزلية بسيطة وفرتها تقنية برامج الكمبيوتر لإعادة صياغة الصوت والصورة. ثم المدونات التى تشبه النكات الساخنة، وبعضها مقفى وموزون باللغة العامية، والثورة فى حقيقة حركتها على أرض الواقع احتفظت بذلك الطابع الخاص للهجة العامية المصرية، سهولة فى التعبير، مقدرة على التبسيط غير المخل للمفاهيم الكبيرة، نزع المسميات غير المفهومة للقوى السياسية التقليدية التى وجدت لزمن طويل على الساحة سواء كانت دينية أم يسارية منظمة، وبالتالى بدأ التحضير الطويل الصامت على مواقع الشاشات الافتراضية. ونشطت صفحات مثل كلنا خالد سعيد وغيرها، ودعم الجيل السابق الذى وضع كل أحلامه وخبراته وتجاربه المريرة فى ذاكرة الجيل المقبل، الذى بدا لأجهزة الأمن فى منتهى السخرية والاختزال، ولا يعتمد على زعامات مفردة، بل تجمعه فكرة واحدة هى القوة المحركة للثورة ألا وهى ثقافة التغيير، لم يقدر أحد مدى قوة السخرية، وقدرة الاعتراض الثورى السلمى. وكانت الدعوة للثورة وتحديد موعدها وخطة الحركة فى الشارع، وهى بنظرة نقدية كانت مثل عصفور يقاتل ضد فيل ضخم مثل طفل أعزل فى صدام مع عجوز محروس بجيش من البلطجية، مثل نغمة صحيحة، وسط ضجيج النشاذ نغمة المزمار البلدى شاعر الربابة الصريح المفهوم، وكانت عزلتهم كجيل هى موقد انصهارهم ككل واحد بدا، نبيلا مضحيا يغسل عار المصريين جميعا، فدافع الناس عنهم وخرجوا معهم، ثم أعلن الجيش انحيازه لمطالب الثورة المشروعة فنطق الصامتون وخرج المترددون ووقفت مصر جميعها لتردد «ارحل ارحل». إنها السخرية إذن، كلمة السر تقهر الخوف، ثم البطولة المعلنة لمقهور أعزل أمام ترسانة الأمن المسلحة، وغياب الوعى العام الطويل، وخيانة الإعلام وعجز النخبة عن التواصل مع الجماهير. لقد حافظ جيلى لمدة ثلاثين سنة على أفكار الحرية والكرامة والنبل التى علمها لنا مجانين مصر الشرفاء الذين بقوا أعمارهم كلها على يسار السلطة والمجتمع، دفعنا أثمانا باهظة من الإقصاء والنفى والإبعاد والحصار الاقتصادى والحروب المهنية، لكن حافظنا على فكرة الثورة، وعلمناها لذلك الجيل الشاب، جيل 25 يناير، فعبر عنها بطريقته التى تواصلت مع جموع المصريين، نحت العربية الفصحى جانبا، خرجت للشارع دون خوف، لم تبحث عن أدوار للزعامة، ففهم الناس ثم تعاطفوا ثم كان صيد العصافير استشهادا، هو القوة الدافعة لمصر كلها، فكانت ثورة شعب مصر العظيم التى لا قبل لهم بها. تحول الأمر بعد تعاطف الجيش و قبح معارك الجمال و البغال وخسة وغباء القوى المضادة للثورة، إلى اعتصام مفتوح فى كل أنحاء مصر، تحول معها ميدان التحرير وكل ميادين التحرير فى مصر «لكرنفال فنى كبير». وهنا بدأ الطابع الاحتفالى للثورة بعد شرارتها الساخرة الصامدة وصراعها الدرامى الاستثنائى ليصبح المشهد الجماعى لمصر، وهى تغتسل وتحتفل، ليحتشد الميدان تماما بكل فنون الفرجة والفكر، حيث انقسم إلى احتفال فطرى استدعى أجمل أغنيات النضال القديم مثل: يلا يا جدع بينا ع الميدان الجدع جدع والجبان جبان لأحمد فؤاد نجم، أو أغانى الناس التى شكلت وجدانهم مثل يا حبيبتى يا مصر التى وضعها المصريون على رنات هواتفهم المحمولة للرقيقة شادية. ثم ظهر فنانو ومطربو وشعراء الميدان ليكتب خميس عز العرب هتافات الثوار ومعه إبراهيم عبدالفتاح وكوثر مصطفى ومحمد زناتى، لتظهر هتافات مثل: كلموه بالعبرى أصله مايعرفش عربى أو: مش هانشمى هو يمشى أو: ارحل يعنى امشى ياللى مابتفهمشى ومئات الشعراء من قلب مصر الحى أطلت أهازيجهم ذات الطابع المرح، قدم البعض حلقات للغناء والرقص الجماعى البسيط احتفل الأهل، أهل مصر النبلاء بجمال وسخونة وعمق اللقاء بعد طول البقاء فى عزلة الذات وتفاصيل الحياة اليومية، أعادت اللحظة الاستثنائية للجميع الروح الفرحة لتنشد أنشودة النصر والحياة. ليظهر رامى عصام بسخريته وروحه الجديدة وقدرة أغنياته على إيلام القتلة وإعادة إنتاج الوعى والبهجة فى قلوب الناس. ذهب محمد عزت وحاتم عزت وعزة بلبع و فاطمة محمد على للغناء فى الميدان، رسم الفنانون التشكيليون اللافتات المعبرة لمصرى بائس، كتب عليها ارحل رسموا المرضى والشهداء وكتبوا على لوحاتهم ارحل. رسموا على الوجه علم مصر، على الأكف، حملوا الأطفال على أكتافهم، ورفعت طفلة لافتة كتب عليها ارحل بقى ماما عايزة تولد. وأخرى مثل: ارحل بقى الدنيا برد وأخرى مثل: لخصوا بقى فى طلبة هاتمتحن مادة الثورة بعد كده.. رقصت فى الميدان معهم مع طاهر البرنبالى ومحمد عزت وأحمد إسماعيل ونوارة نجم وفردوس عبدالحميد، وغيرهم لا يمكن إحصاء الأسماء، كل ما كان يغلف فرحتى بالناس وبمصر وبالثورة هو دهشة العاشق من صدق وعد الحبيبة، ها هى مصر التى راهنا عليها العمر كما قال لنا الأساتذة والشهداء هى مصر التى أخبرونا أنها لا تستسلم، لم نكن مجانين إذن يا أبناء ال.... كنا أصحاب الاختيار الصادق والصحيح، كان يشغلنى أن يكون جوادى من رحل وانتظر العمر كله ليرى تلك اللحظة سليمان خاطر المجنون، نجيب سرور المجنون، نجيب محفوظ المجنون، حازم شحاتة المجنون، عامر على عامر، د. إبراهيم حمادة الناقد الكبير، رأيتهم كيف تم تعذيبهم بشرفهم، كنت ألمس أرواحهم مع رائحة الجنة التى حضرت مع د. مساء الشهداء الأبرار. كل الذين أحبهم ورحلوا ما ماتوا، فقد عاشت أفكارهم وكان الاحتفال فى الاعتصام هو الاحتفال بالماضى النبيل وباللحظة العبقرية وبنجاح قريب فى الغد. كانت أصوات القداس وتكبيرات الصلاة أنشودة مصر الطيبة المؤمنة بالقضاء والقدر، تعانق أهازيج السمر الطازجة العفوية الممتلئة بالوعى دون إفراط شديدة الاختزال والكثافة. كان المكان يحضن الجميع، شوارع وميادين مصر نظيفة جديدة يغسلها أبناء مصر من الأتربة المعتقة. المشهد يمتزج بمئات الأزياء الملونة بالجلباب البلدى والجلباب الأبيض الدينى، وبعلامات الصليب على صدور الشباب، وبالملابس الراقية الأحدث موديل وبالملابس الخشنة الشريفة، كانت اللحى على وجوه الرجال، كان المسيحى يسكب الماء للمسلم للوضوء، مشاهد ذات دلالة عميقة، الفتاة الجميلة والهواء يداعب خصلات شعرها الطويل الأسود الفاحم تهتف جوار المنتقبة والمحجبة، إنها مصر التى انسجمت وصلت وغنت وانتصرت ثم عاد الثوار للبيوت وبدأ المحترفون فى إنتاج فنونهم المنتحلة كمسرحيات وأغان وعروض أوبرالية تحتفل بالثورة، يعلن بها الفلول الولاء للمنتصر الجديد ثم يعلن بها أصحاب المصلحة الانتماء للتيار الأقوى فى الانتخابات، بينما يظل هؤلاء يشيعون الدلالة الفنية قتلا وتسطيحا وثرثرة، ويبحثون فى الأفق القريب عن حاكم يزمرون ويطبلون ويقيمون له احتفالات الولاء، يصمت أهل الفن الحقيقى ولا يعرفون إلا قليلا، ويتأمل المصريون انتظارا لإنتاج إبداع جديد طازج بقيمة ونبل ثورتهم العبقرية المتفردة. أستاذ بأكاديمية الفنون ومخرج وناقد مسرحى