أدهشنى الأديب الكبير «جار النبى الحلو» بالتعبير عن امتنانه لكل من قرأ أعماله! وبأنه مدين لمدينة المحلة بكثير من الحكايات، وينسب الفضل الأكبر فى هذا لجدته «القعيدة» التى أثرت خياله بالحواديت، وعلمته الرهافة والحزن والتعبير عن الوجع!. من يجالس هذا الأديب العذب يوقن أن للطيبة أبعادا ألطف من كل ما عرفناه عنها، وأن الإنسانية أرق مما اعتدناها بكثير، وألا فرق بين الأدب الأخلاقى والمكتوب فقد تماهيا بالميلاد فى قلبه النقي. لكل أديب منجم ينتح منه، فأى المناجم تلجأ إليها فى الكتابة الأدبية؟ ولدتُ وعشت بين الناس الذين يبحثون عن رزقهم ويعيشون على الهامش ولا يملكون غير الأحلام البسيطة، لكنهم يحملون كنوزاً من الإنسانية، الحواديت والحكايات هى كل حياتهم، لم ألجأ إليهم، بل كنت بينهم وأحببت حياتهم فى السوق والغيط والشوارع، وكنت أحب بيوتهم الفقيرة. واحتفيت بهم فى أعمالى لا لأنى أحزن عليهم، إنما أقف معهم، وأعرف كيف انكسرت أحلامهم! القصة عندك تخبر عن أبطالها أم تقدمهم؟ القصة والرواية عندى تقدم أبطالها ليعبروا عن أنفسهم، هم الذين يتحدثون ويرون قبح العالم وقسوته، ويسعدهم شرب الشاى فى الصباح وهم ينتظرون رزق اليوم، ليسوا أبطالاً، إنما يعيشون برغبة الحياة. تنشغل فى أعمالك بالإنساني، فماذا عن السياسة فى أدبك؟ انشغالاتى الإنسانية تحكم عالمي، فأنا جزء من هذا العالم الذى يبحث عن مكان تحت الشمس، ومن الروح الإنسانية التى تصنع جماعتها وترافقها من باب الدار إلى نهاية العالم. والسياسة فى أدبى دائماً شاخصة، قاهرة، حالمة، ومؤكدة! وتتجلى بوضوح منذ رواية «حجرة فوق سطح»، وبقية الروايات حتى «العجوزان»، والسياسة موجودة حتى فى الحكايات، لأنها هى التى تضغط على حياتنا وتشكلنا وتدفعنا إلى الحلم أو اليأس. كيف ترى علاقة الروائى بالواقع اليومي.. وماذا يعنى أن تكون روائيا؟ أن أكون روائياً يعنى أن أستمتع بالكتابة، وأعيش بين ناسى وحكاياتهم، وأرى العالم مرة أخرى بألوان وانعكاسات مختلفة، لكن الروح هى التى تسيطر دائماً على هذا العالم. ما الذى أغراك لدخول عالم الرواية، بعدما خضت تجربة كتابة القصة؟ كتبت أول رواية بعد نحو 25 سنة من نشرى قصصا ومجموعات قصصية، والحقيقة كنت أخشى دخول عالم الرواية خاصةً أننى لا أحاول أبداً استعارة عوالم أو تقليد أى من التجارب، لكن حين بدأت رواية احلم على نهر وفيها طفولتى وطفولة بيتنا الذى كان على النهر، وحلم أبي، ومحاولة كتابة هذا المشهد الذى انفتح فجأة رأيته جديرا بالتدوين، كانت «حلم على نهر» هى ممرى الحقيقى إلى الرواية، واكتشفت أن عليّ متابعة هذا العالم وترصده، فكانت رواية «حجرة فوق سطح» وهى نتاج هزيمة 67، ثم توالت الروايات حتى «موت الأب فى عطر قديم»، لكن بعد حشد هائل من الحكايات والأماكن التى اندثرت، واستطعت فى الروايات أن أكتب سيرة المحلة والوطن وسيرتي، الانكسارات والهزائم والأحلام. «العجوزان» اسم لإحدى رواياتك، أى دلالة لهذا العنوان اللافت؟ «العجوزان» رواية كتبت بعين عجوز خبر الدنيا وعاشها، لكنه يكتشف أنه وحيد مع عجوز آخر يصنعان بهجة حياتهما الصغيرة، واستطعت فى هذه الرواية أن أعبر عن حياة كاملة وأستكمل شكل المحلة وما وصلت إليه. كيف ترى إسهام جيلك فى عالم القص؟ أنا من جيل محمد المنسى قنديل ومحمد المخزنجى ومحمود الوردانى وإبراهيم عبد المجيد وعبده جبير ومحسن يونس وسعيد الكفراوى فى القصة والرواية، ولكل منهم ذائقته وتميزه، فقد أعطوا الإبداع العربى أجمل حصاد العمر، وقدموا فى أصعب الظروف إضافات إبداعية وجمالية، ومازالوا يقدمون بإخلاص رغم كل شىء. تبدو فى كتابتك مولعا بالحكي، خاصة الحزين منه، فمن أى نبعٍ تستقيه؟ تعلمتُ الحكى والحواديت من جدتى لأمي- القعيدة- وكنت أكتب فى كراستى وبقلمى الرصاص كل ما تحكيه لي، وتعلمت منها الرهافة والحزن ومحاولة التعبير عن الوجع. أى حُلم يراودك الآن؟ أحلم بوطن قوي، متخلص من التخلف والإرهاب، ولن يقضى عليهما سوى إنارة العقول والمواجهة الحقيقية لكل ما هو متخلف فينا وراسخ. ما قصة اسمك اللافت هذا؟ قصة لطيفة، فحين ذهبت جدتى لأبى لأداء فريضة الحج أواخر 1946، وكانت الرحلة وقتها إلى بلاد الحجاز ذهاباً وإيابا تستغرق شهوراً، وهناك أقامت جدتى فى خيمة، وقام على خدمتها شاب حجازى لطيف اسمه «جار النبى»، فأحبت جدتى اسمه، وحين عادت إلى مصر كان الاسم من نصيبى، وأنا أيضاً أحببت اسمى.