كم أصابت لباب الحقيقة تلك المقولة الرائدة للدكتور «زكى نجيب محمود» حين قال: الأصل فى الفكر أن يكون حوارا بين نعم ولا، وما يتوسطهما من ظلال وأطياف، فلا القبول المطلق ولا الرفض المطلق يعد فكرا... وتلك كانت هى البؤرة المنهجية التى انطلق منها كتاب «الورطة الثقافية ... خرائط من ذاكرة الجنون» للكاتب د. محمد حسين أبو العلا الذى شغفته قضايا الثقافة والفكر منذ عقود، فقدم أعمالا عديدة توجها بهذا الكتاب الذى جاء كاشفا بغزارة مضمونه عن معان وإشكاليات غائمة فى الذهنية العربية فاستطاع تجسيد ما أسماه بالورطة الثقافية، وهو تعبير ينطوى على أصدق ما يمكن أن توصف به مهاوى الوضع الإنسانى المعاصر مع الاختلاف النسبى لسطوة هذه الورطة على الكتلة الغربية وثقلها على الشعوب العربية فبالنسبة لهذه الكتلة، فقد بلغت أشواطا من التطورية الرقمية والمعلوماتية مثلت فيها الأرقام المذهلة ملامح خاصة لذاكرة الجنون التى لا يستطيع العقل الذى أنتجها أن يستوعبها، وعلى ذلك فقد تغير مفهوم الثقافة، بحيث أصبح مفهوما باليا يمثل أزمنة سحيقة، أما ساحتنا العربية فقد كانت أنموذجا أمثل فى الاستهلاك المعلوماتى لكنها لم تستطع أن تحقق وجودها بأى درجة من المشاركة فى ذلك الزخم المعلوماتى ولا استطاعت كذلك أن تتمسك بالجذور الأصيلة لثقافتها. ومن هنا تنشب الصراعات والحروب الثقافية بادئة من تغريب الهويات ومنتهية بالاغتيال الحضارى للعقل المعاصر القائم على التماثل الساحق للملكة الابداعية أو الامتثال المدمر للكينونة. وحول ذلك يقول المؤلف إنه من المنطقى أن يعايش مفهوم الثقافة تحورات متلاحقة فى مضمونه ومحتواه بما تتجسد معه آليات الوضعية الثقافية، لكنها ليست التحورات التى تحيد به عن معناه طامسة لروحه بما يخلخل دعائم الموقف النقدى المتسق مع معطيات اللحظة الزمنية، وهنا تتجلى دراماتيكية الصراع الثقافى الساعى نحو إحداث قطيعة حادة مع الثقافات التقليدية التى يشكل الاختلاف داخلها بؤرة وجودها لدفعها قهرا نحو التوحد مع السلطة الكوكبية، وتلك احدى فاعليات المشروع الغربيفيإطار رسالته الحضارية القائمة على ميكانيزم العزل العنصرى للثقافات المتراجعة أو الثقافات الرخوه نحو إحلال استراتيجية إبادة تلك الكيانات الثقافية تأسيسا على منهجية الاستعلاء.التى تحتدم خلالها المواجهة التاريخية مع الثقافات التقليدية لاقتلاع جذور الهوية، وهنا لا تفعل هذه الثقافات كمتغير سببى وإنما توظف كأداة أيديولوجية سياسية يزداد عمق استخدامها كلما عبرت اختلافات هذه الثقافات عن نفسها، وتجلت الآثار الواضحة مجسدة فى بروز مؤشرات التخلف وما يتبعها من موجات الاحباط القومي. وانطلاقا من ذلك يزخر الكتاب بكم هائل من التساؤلات المحورية التى تفتت تلك القضية الشائكة والتى جاءت على غرار: ترى ما هو التشخيص التاريخى الأمثل للوضع الغرائبى للثقافة الكونية المعاصرة؟ وكيف تم اختراق الناموس الثقافى بحيث صارت الثقافة هى القفص الحديدى للعقلانية؟ وكيف للذاكرة الانسانية أن تخوض متاهات الاختلال الوظيفى بعد تصارع مفرداتها واصطدام أبعادها؟ بل وكيف لمسيرة الثقافة التى أفرزت مفاهيم تقدمية طيلة أشواط حضارية أن تحتضن مفاهيم رجعية تنبثق من أغوار الحضارة المعاصرة ذات التباين النوعى على غيرها من الحضارات؟ وكيف تبدل سؤال الذات بسؤال الآخر وسؤال الآخر بسؤال الذات؟ بل أيضا كيف للثقافة أن ترتاد أفق الوعى المنفلت وتعصف بأسئلة الوجود الاجتماعى إلا حين وظفت كأداة أيديولوجية لممارسة الفكر التسلطي؟ وهل تم تغييب مفهوم الحياد الثقافى إلا لإنتاج عقول مبرمجة تكون علتها الأصيلة غياب التوجه والمعيارية؟ وكيف تآلف الجمع البشرى عنوة مع معطيات النفوذ الثقافى متخليا عن وجود الهويات فى تنويعاتها وفاعليتها؟ وينتهى د. أبو العلا فى مقدمته للكتاب إلى أن محاولات تغييب مثل الاستنارة العقلية وطمس آفاق الروح الإنسانى لن يخدم أى مشروع سياسى أو إستراتيجى وأن التنمية وعلى اختلاف ضروبها، لن تكون البديل الأفضل أو حتى الأسوأ للثقافة وأن الناتج القومى لن يحل محل الهوية وأن طقوس الابتكار الآلى لن تكون مثيلا للتنويعات الثقافية وان أكبر خسائر المعترك الأرضى فى شوطه الراهن، هو أن تغدو الثقافة مرادفا للإعاقة وربما التخلف وتلك إحدى أخطر كارثيات العصر الحجرى الحديث.