وتواصلا مع سياق الورطة يسود توجه ما بعد الحداثة ليعبر عن التيارات الثقافية والسياسية المتصدرة ويعلي من طبيعة الرؤية العدمية والفوضوية للحياة وضرورة الاهتمام بالواقع المعاش وتقديمه علي الأفكار والنظريات مهما تعلو قيمتها, والإلحاح علي سيادة الرؤي الاجتماعية والسياسية المنفلتة أخلاقيا, وتبعا لهذا التوجه فالإرادة لا تعني إلا القوة, وبالطبع لابد ان تسبق العقل وقوانينه وتتغلب علي المنطق وأسسه. والمتأمل في إطار رؤية نقدية لكل ذلك أو بعضه انما يتبدي له غياب الاجابة عن مشكلات الكينونة الاجتماعية المعاصرة واصطدامه بسؤال جوهري لإيلان تورين يطرح خلاله تحديا مريرا علي الثقافة الكونية المعاصرة بكل تياراتها وهو: هل نستطيع أن نتعايش متساويين ومختلفين؟!.. تلك هي القضية الممثلة للمعادل الموضوعي لسبل الانقاذ من تلك الوحشية الحضارية المعادية للثقافة وللتجربة الانسانية في سياقاتها المستقبلية حين أهدرت الغاية المركزية وبددت الأمل الأيديولوجي في إقامة جسور انسانية تعددية تكون هي أنشودة العقل التحرري. من ثم فان ذلك يحركنا بالضرورة نحو دوائر السؤال التي تبلور تفصيلات المشهد متجلية في الآتي: تري ما هو التشخيص التاريخي الأمثل للوضع الغرائبي للثقافة الكونية المعاصرة؟ وكيف تم اختراق الناموس الثقافي بحيث صارت الثقافة هي القفص الحديدي للعقلانية؟ وكيف للذاكرة الانسانية أن تخوض متاهات الاختلال الوظيفي بعد تصارع مفرداتها واصطدام أبعادها؟ بل وكيف لمسيرة الثقافة التي أفرزت مفاهيم تقدمية طيلة أشواط حضارية أن تحتضن مفاهيم رجعية تنبثق من أغوار الحضارة المعاصرة ذات التباين النوعي علي غيرها من الحضارات؟ وكيف تبدل سؤال الذات بسؤال الآخر وسؤال الآخر بسؤال الذات؟ بل أيضا كيف للثقافة أن ترتاد أفق الوعي المنفلت وتعصف بأسئلة الوجود الاجتماعي إلا حين وظفت كأداة أيديولوجية لممارسة الفكر التسلطي؟ وهل تم تغييب مفهوم الحياد الثقافي إلا لإنتاج عقول مبرمجة تكون علتها الأصيلة غياب التوجه والمعيارية؟ وكيف تآلف الجمع البشري عنوة مع معطيات النفوذ الثقافي متخليا عن وجود الهويات في تنويعاتها وفاعليتها؟ ان محاولات تغييب مثل الاستنارة العقلية وطمس آفاق الروح الإنساني لن يخدم أي مشروع سياسي أو استراتيجي وأن التنمية وعلي اختلاف ضروبها لن تكون البديل الأفضل أو حتي الأسوأ للثقافة وأن الناتج القومي لن يحل محل الهوية وأن طقوس الابتكار الآلي لن تكون مثيلا للتنويعات الثقافية وان أكبر خسائر المعترك الأرضي في شوطه الراهن هو ان تغدو الثقافة مرادفا للإعاقة وربما التخلف وتلك احد أخطر كارثيات العصر الحجري الحديث كما أشار سيرج لا توش..... وتلك هي البؤرة التي انطلقت منها توجهات العقلانية المضادة التي أخرجت الغرب من دوائر الزمن الخطي باعتباره حركة موجهة من نقطة الي أخري وأدخلته محيط الزمن الدائري الذي استدعت معايشته إخضاع فكرة التقدم لمراحل من المراجعة الدقيقة حتي لا يظل مفهوما أحاديا لدي الغرب كافة لحل المشكلات السياسية والثقافية, وليس من سبيل نحو التجاوز والفكاك من كل ذلك إلا بنسف العلاقة الكلاسيكية المشئومة التي ترجمها ريجيس دوبريه بين جدلية الزمن التقني والزمن السياسي. تلك التي أودت بالذات الغربي حين استحوذت علي الآلية الذهنية وغيبت عنها قطوف الحكمة المهجورة في الذاكرة البشرية والمشيرة الي أن تقليص القوي ليس إلا تمجيدا للحرية وتقديسا للعدالة وتوقيرا للانسانية, وأن الطوفان الثقافي ليس إلا أملا في إحياء المعني وإعلاء القيمة والمبدأ الأخلاقي والعودة الحميمة لاحتضان الوعي!!