دائما ما كان الحوار هو الآلية الثابتة نحو استكشاف الأغوار والخوافي المرتبطة بجدليات القضايا والأشخاص, وهو الدال بذاته الي مسارات الحقيقة واليقين, وهو كذلك الإضافة الثرية والخاصة الممثلة للدينامية الفاعلة في التراث الإنساني مهما تصاعدت موجات المد الزمني التي استحكمت معها ضرورات الحوارية, لا سيما وقد أشكلت مفردات الواقع المعاصر في اتجاه تناقضية مستحيلة صار فك طلسماتها أقرب كثيرا الي شطحات الخيال وآفاق اللامعقول!! وحين تطرح اللحظات الآنية تجليات وأبعادا محورية اندمجت في ذات مفكرة فاننا نكون مأخوذين معها وبها الي عوالم أخري لها بريقها الذي يجعل الحوار يلح علي صاحبه حتي يمد جسوره, من ثم تبدأ مسيرة التواصل والالتقاء او التدافع والاختلاف لتكون هناك ومضات متجددة تشق تلك الضبابية القابعة في حياة الفكر علي تباين مراحلها تاريخيا وأيديولوجيا. وقد تجسد كل ذلك فيما كان بين الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه وبين الدكتور علاء طاهر الذي أرقته كثيرا أفكار ومعطيات الفيلسوف وتحوراتها وتشعب زواياها وانطلاقاتها المدوية في بؤرة العقل الأوروبي والغربي بصفة عامة, وقد بدأت شرارة الحوار منذ أن أخرج الفيلسوف كتابه حياة الصورة وموتها, ذلك الذي مثل مسارا فكريا جديدا باشر فيه دوبريه تطويع الفلسفة وتطبيق منهجيتها علي موجودات معاصرة أصبحت تشكل وسائل وأدوات لتحقيق أهداف ومآرب ترتبط معا بمصالح دول دون أخري.. تلك هي الصورة المتلفزة أو المنشورة أو المسيسة وسطوتها الطاغية وديكتاتوريتها في إطار سيادة مفهوم العنف الإعلامي واعتبارها هي الممارسة الفاعلة والأكثر حداثة لاختراق بنية الوعي لدي الشعوب المستضعفة, وبذلك استطاع دوبريه ان يطرح نفسه كفيلسوف متخصص محترف, إذ قدم محاولات متعمقة للانعكاسات المباشرة وغير المباشرة للصورة كأخطر عناصر التقنية الإلكترونية وتأثيراتها اللامتناهية في تحريك الذهنيات المعاصرة, وبصفة عامة رصد الكاتب التحولات الذوقية والذهنية والجمالية ثم الفلسفية المتعلقة بمسار الوعي الذاتي وتكوينه تحت وطأة المؤثرات الخارجية. وقد أثار المحاور بحذق شديد في كتابه القمع والصورة إشكالية شائكة في عالمنا العربي تتبلور في تساؤل غاية في المنطقية هو: كيف أنه في إطار الثورة الإلكترونية التي تمثل الصورة أحد أهم ركائزها لم ينشأ فكر نقدي تحليلي داخل الثقافة العربية تجاه ما يتناوله وعي المواطن من وجبات إعلامية؟ وكيف قوبل ذلك بصمت مطبق من قبل المثقفين العرب في وقت يعايش الغرب فيه لحظة ثقافية نقدية فارقة تتسق في كل أشكالها مع زخم الثورة الإلكترونية؟ لكن ما الذي أفاض فيه دوبريه حول مقدماته عن الصورة؟ لقد قدم تفسيرا دقيقا لطفولة الصورة وبراءتها ونعومتها في نشأتها الأولي كفن خاص في التاريخ الإنساني منذ الحضارات الكلاسيكية ومراحلها التطورية التي انتهت بدخول تلك الصورة دوائر التكنولوجيا رفيعة المستوي, من ثم أصبح هناك محك لقياس مدي تغير الوعي بين الوسائل التي تعكس الصورة علي العين الرائية, وينبثق عن ذلك منطقيا تاريخية علاقة النظرة بالصورة في إطار التحولات التي ساعدت علي إن تنتقل الصورة من مجرد موضوع للنظر الي حالة ذلك الوسيط الذي يسهم في تشكيل الرؤي والأفكار والمنظورات, كما استطاعت الصورة بحالتها تلك تحجيم مساحات الخيال وكبح جماحه حتي إن دوبريه قد قال كلما نظنا أقل تخيلنا أكثر.