واستكمالا, فالظاهرة التي ينبغي ملاحظتها هي كيف ان خطابا كلاميا تكون له القدرة والسلطة علي توليد آثار عملية داخل الواقع؟..أو كيف يوظف هذا الخطاب نفسه داخل حركية العالم..خطاب كلامي شفهي منطوق أو خطاب كلامي مكتوب أو خطاب تصويري مرئي يتجسد داخل الصورة المرسومة..كيف يكون لهذا الخطاب الأثر والقدرة ليتحول الي فعل اجتماعي عام؟ وفي موضع آخر يقول دوبريه ان الثورة قد بدت لي تناقضية من ناحية أنها تضع النظام القائم موضع اتهام ولكنها من ناحية أخري تبني نظاما قائما لا يسمح أبدا بأية قدرة نظرية للمعارضة, بمعني أننا لا نستطيع أن نكون عقائديين غاوين ثم نقديين في الوقت نفسه. لكن الذي يبدو لي هو أن تكون ثوريا أي أن تكون نقديا وبناء علي ذلك يمكن أن ننتقد الدولة التي تدعي الثورية لأنها لا تسمح بالنقد الموجه لها ولأساليبها في الحكم, وهي علي ذلك تبدو دولة ديكتاتورية لا تبيح نقد نفسها من قبل مثقفيها حتي الثوريين منهم وحتي المؤيدين لها في ثوريتها, إذا فهذه الدولة التي تدعي الثورية هي دولة متصلبة مغلقة. وعلي مستوي آخر قدم الكاتب والمحاور د.علاء طاهر جزءا خاصا حول تداعيات الحوار وقصة اللقاء بدوبريه ونشأة العلاقة الروحية والفكرية معه منذ شرخ الصبا وأيام الشباب وأشواق الذات التي تعلقت ببطولاته ومآثره وأفكاره. وتداعي الخواطر واستطرادها في تلك الأثناء وقت تأديته للخدمة العسكرية والتلاقي مع نص دوبريه ويوميات برجوازي صغير ذلك النص الذي كانت عقوبة قراءته هي السجن الانفرادي تلك التي مثلت قاسما مشتركا بين دوبريه وعلاء طاهر علي تباين الأسباب والنتائج وان كان التطلع للحظة الخلاص دائما هو الأمل المرتجي الدافع نحو وجود عزلة أخري مفرداتها التأمل والاستغراق والتوحد الذاتي. ويرصد د.طاهر بعضا من بانوراما التحولات الفكرية في مسيرة دوبريه ممثلا بكتابه( نقد الأسلحة) الذي انطلق فيه الي نقد التجربة الثورية متوجها نحو نقد الفكر السياسي والثقافي, أو كتابه التأسيسي( السلطة الثقافية في فرنسا) والذي ناقش خلاله مدي سطوة المثقفين وتأثيرهم في صياغة الدينامية الاجتماعية, إضافة الي كتابه الرائد( نقد العقل السياسي) الذي نقل عبر سطوره الثورة وفق منهج سياسي يقوم علي أن الثورة بحد ذاتها هي نتاج لفكر سياسي يريد التغيير, ولأول مرة في التاريخ الحديث والمعاصر يوجه نقد الي الفكر السياسي باعتباره فكرا يمتلك خللا داخليا بما انه فكر سياسي. بعد ذلك خاض دوبريه منعرجات اتجاها فلسفيا جديدا نحو نقد الدولة ووسائل هيمنتها الاعلامية علي الوعي العام فكانت كتبه التأسيسية الثلاثة:(دروس في علم الوسائطية العامة),( حياة الصورة وموتها),( الدولة الغاوية)..وقد تولد عنها جميعا ان طرح الكاتب علي نفسه تساؤلات حيوية أهمها:ما هي الأسباب الموضوعية للنقلة الجذرية في تفكير دوبريه؟..وما هو موقفه من التحولات الحادثة لأكثر من ثلاثة عقود وحتي الآن؟..ان كل ذلك أو بعضا منه كان كافيا لأن يكون هو المحقق للدافعية والمحرض الأساسي نحو الالتقاء بدوبريه بعد معايشته سنوات طوال عبر الصفحات عقلا ووجدانا. وقد استحضر الكاتب أطياف لقاءاته الحميمة مع رموز الثقافة الفرنسية والعالمية تلك التي تحققت لها بالفعل الوحدة العضوية بين الشخص والنص ومن هؤلاء كان:ميشيل فوكو..غارسيا ماركيز..الآن روب غرييه..امبرتو ايكو..جاك دريدا..ميشيل سير.. كذلك فان الكاتب لم تخالجه أو تسكنه هواجس الخوف والقلق من انعدام وجود علاقة علي مستوي من التوحد بين الشخص والنص وهكذا أيضا كان ريجيس دوبريه.