1 جلست في استراحة الدرجة الأولي بمحطة قطار الجيزة , كان هناك جو مقبض ينبعث من الإستراحة, وجدرانها متسخة. يشاركني في الجلوس بعض المسافرين.. في الاستراحة سيدة جميلة ترتدي بالطو لونه أحمر . معها طفل شقي , وزوج يرتدي بدلة كاملة , يركز إهتامامه علي الحقائب الكثيرة التي وضعها أمامه , ولا يتكلم مع زوجته , وكانت هناك لمسة حزن تنبعث من نظرة عينية , وكانه عائد من جنازة والده . كما ان الزوجة لم تلتفت إليه , يبدو انهما متخاصمان . أعلن مذيع المحطة أن قطار 872 القاهرةأسيوط , سيصل علي الرصيف حالا . نهض زوج الجميلة, نظر إلي حقائبه, ثم قربها وسحب الحقيبة الكبيرة الرئيسية, وجمعت الزوجة في يدها أكياس بها أشياء. وأمسكت الطفل بيدها الأخرى , وتأهبوا للخروج . دخلت عاملة الاستراحة, دعت للحاضرين بسلامة الوصول, وطول العمر, أخرج بعض الركاب نقودا, ووضعوها في يد السيدة بصمت, شَكَرَتهم ودعت لهم بسلامة الوصول . الرصيف مزدحم , والطفل يجري علي الرصيف , فرحا بحذائه الجديد الذي يصدر أصوات كلما تحرك. ونادت عليه أمه : • تعالي يا هيثم, ثم حملته بين يديها . ظهر نور مصباح القطار المبهر من يمين الرصيف , وبدأنا نسمع ضوضاءه , ثم ظهرت مقدمة الجرار, وإنهمك كل الواقفين في جمع الحقائب, ترقبا لتوقف القطار. تزاحمنا, علي باب القطار, مع أنه لكل منا تذكرة ومكان محدد, والقطار لن يتحرك قبل أن ندخل فيه جميعا. كلنا . عندما تحرك القطار كانت الساعة تقترب من الساعة السابعة والربع, مع أن موعد القطار في السادسة. أخرجت جريدة الأهرام, قرأت بعض العناوين الرئيسية, وكان هناك عنوان يقول: 002 ناقة أو 0001 دينار ذهب دية ضحايا القطارات. تركت الجريدة من يدي, وبدأت أفكر في هذا الخبر, الذي معناه أن قيمة الرجل تعادل 002 ناقة, وحمدت الله أنها ناقة, وليست حمار أو بقرة. أو ما يعادل أربعة كيلو جرام وربع من الذهب . كان الطفل هيثم يجري في الفاصل بين الكراسي, وأمه تتابعه, وعندما حَاوَلت أن تلحقه, منعها زوجها, كانت تجلس علي الكرسي بجوار النافذة وزوجها يجلس بجوارها. شغلت تفكيري فكرة دية المصريين . والتي تقدر بقيمة الناقة , في وقت لم تكن فيه عملات , وتسائلت : ألم ترتفع قيمته منذ أن قدروها من اكثر من الف عام . ثم إنزلقت إلي نوع من التشتت , وشعرت بالإنقباض من قراءة موضوع الدية, وانا مسافر بقطار معرض لحادث, وانقذني من الأنقباض النوم العميق. وعندما إستيقظت , كانت التاسعة والربع. خرج القطار من محطة بني سويف, بعد 02 دقيقة توقف فجأة . لم أشعر بقلق لتوقف القطار, من المعتاد أن تتوقف القطارات أثناء سيرها, ثم تعاود المسير بعد فترة. كانت المنطقة التي توقف فيها مظلمة , عن يمين القطار في الناحية الغربية ترعة الإبراهيمية, وقرية بيوتها مغلقة ولا حركة فيها تبدو كصورة قاتمة في الظلام . في الناحية الشرقية , بعض البيوت ايضا. إزداد قلق الركاب, لطول فترة توقف القطار, في تلك المنطقة المظلمة والموحشة بين محطتين . فجأة ظهر رجل, وأعلن أن بعض الأهالي أشعلوا النيران أمام القطار, ليوقفوه . وخيم صمت غامض وكئيب علي عربة القطار, وبعد لحظة حدث هرج, وكان الطفل هيثم قد رقد علي حجر أمه, اصاب الهلع أمه وإحتضنته بكلتا يديها, والطفل يحاول ان يتملص. ذهبت ناحية الباب المفتوح, لا يوجد رصيف مرتفع, يسمح بالنزول الآمن, فضلا عن الظلام الدامس حولنا. نظرت خارج القطار بالفعل شاهدت النيران وحولها رجال, كان بعضهم يرقصون حولها. عدت الي مكاني منقبضا, حدث هرج ومرج في العربة, واختلطت أصوات الركاب بعضها ببعض. بعضهم يبلغ ذويه وأهله في التليفون أن القطار متوقف, والطريق مقطوع, كل الأصوات التي سمعتها كانت يائسة. انا أجلس في كرسي مفرد, وفي الناحية الاخري تجلس السيدة في حالة وجوم تحتضن طفلها النائم علي حجرها, مرت عربة الأكل, كحيوان كئيب يزحف علي ارضية العربة. كانت العربة تبدو فارغة من الطعام والمشروبات . الركاب يتحركون خلال العربات وهم واجمون, تعلو وجوههم كآبة وخوف, يروحون ويجيئون في تلك المساحة الضيقة التي حوصرنا فيها. خيل إلي أن أحدا من المسئولين ربما لا يعلم أننا هنا محاصرون ومحتجزون داخل القطار. هيمن علي نوع من القلق والخوف, والشعور بالعجز, وفكرت فيما ينبغي عمله, لو طال الإحتجاز, في تلك المنطقة الموحشة. أتصلت «ببوليس النجدة». من تليفوني المحمول. وضعته علي أذني. رن طويلا, لم يرد احد. ! انتابني شعور اننا في دولة أخري, متخلفة , لانظام فيها ولا قانون . داخل القطار ,تشكلت لجان شعبية من الركاب ومساعدي السائق, والكمسارية وبعض الشباب, كانوا هم أصحاب القرارت هنا , وقيل انهم سيتولون حماية القطار من الخارج . دخل العربة مساعد السائق ,طلب من الركاب أن ينزلوا من القطار لتشكيل دروع بشرية حتي لا يأتي اهل القرية الثائرون والغاضبون إلي القطار, ويحرقون الجرار لتعطيله. وينهبون الركاب وأمتعتهم.! كان الرجل يتحدث متقمصا شخصية قائد مسئول. الركاب رفضوا النزول, لأنهم لا يعرفون لماذا ينزلوا , ولا اين ينزلوا؟ والغريب أن مساعد السائق , كان ينتظر أن يفر الركاب من أمامه, ويسارعوا بالنزول من القطار تنفيذا لتعليماته, ولكن بعض الركاب تململوا في مقاعدهم , ورفضوا النزول . تكلم أحد الركاب من المقاعد الخلفية, وأتهم العاملين في القطار بأنهم السبب في الكارثة التي حلت بنا بتأخيرهم موعد القيام, قائلا: •لو تحركتم في الميعاد. كنا نجونا. لم يرد مساعد السائق, وإنصرف. بعد أن رفض الركاب دعوته للنزول من القطار . فُتِحَ الباب بعنف وقوة, ظهر شاب ممتلئ , وكان يمسك في يده فرع شجرة صغير, مقطوع حالا من شجرة, لانه كانت في الفرع أفرع صغيرة بها بعض الأوراق الخضراء, وكان يلهث, نظر إلي الزوجة الجميلة,التي ترتجف, وخاف أن ينسي ما يريد أن يقوله, فتدارك الأمر, وأبعد عينيه عنها, ونظر في سقف القطار, كانت انظار الركاب كلها متجهه اليه. قال وكأنه يخطب: • كل واحد يحرس حقائبه , إحتمال حدوث سرقات في القطار. ثم أخترق العربة لينبه ركاب العربة التي بعدنا . استيقظ زوج الجميلة , وقام بتحريك رأسه عدة مرات, ولم يشعر بحقيقة ما يجري . حاولت تجربة الإتصال بالمطافي , وإتصلت برقم 180 وهو رقم المطافي, رد أحدهم , أخبرته أننا محاصرون داخل قطار , وان هناك نيرانا علي الطريق أمام القطار, أخبرني المتحدث ببرود , أنه يعرف أن هناك حريق أمام جرار القطار, وأن سيارة إطفاء في طريقها إلي مكان الحريق, مع أنه لم يسألني عن المكان . تذكرت صداقتي بعدد من الصحفيين, وأنني من الممكن أن أستعين بهم لتوصيل صوتي إلي العالم الخارجي. طلبت جريدة الأهرام, رد علي أحدهم, قلت له : •نحن محاصرون داخل قطار , الأهالي قطعوا الطريق , نريد أن يصل صوتنا إلي المسئولين , وان هناك نيرانا علي الطريق أمام القطار . قال الصوت : •خليك مع الله . سأوصلك بشخص تكلم معه . انتظرت, جاء صوت آخر. أخبرته بما قلته لعامل التليفون . استمع الرجل, وقال : •كان الله في عونكم . سأوصلك بالأستاذ حسين عبد المولي , مندوب الأهرام في بني سويف . ولما فشل في توصيلي مباشرة , أملاني الرقم , وكتبته . طلبت الرقم . رد علي . أخبرته بأنني واحد من ركاب القطار المكيف المتجة لأسيوط , وأننا محاصرون داخل قطار, وان هناك نيرانا علي الطريق أمام القطار, أشعلها أهالي القرية التي علي يسار الطريق , ولا أعرف اسمها . سألني عن المكان , فأخبرته أننا جنوب مركز الفشن . وأننا أمام قرية لا أعرف أسمها. قال الرجل لي : • أنا معك , فعلا هو موقف صعب, وأنا سأحاول الاتصال بالمحافظ , وأرد عليك. في تلك اللحظة بدأ هيثم بالصراخ , كانت امه تحاول أن تسكته وتزيد من احتضانه . كان صراخ الطفل موجعا , ويشكل مع الصمت المطبق بالعربة حالة من اكتئاب خاص , زاد من هموم الركاب وصمتهم , مع استمرار صراخ الطفل الحاد من الجوع . صاح أحد الركاب بصوت مرتفع , وكأنه يستعين بقوة عظمي : • رحمتك يا رب . وسمعت صوت جهوري من الخلف يرد عليه , وهو يصيح: • من أعمالكم سلط عليكم, ولا نعرف الله إلا وقت الضيق, وهذا من جراء فساد مبارك ونظامه . إلتفت للخلف, كان المتحدث يجلس في منتصف العربة, رجل ذو لحية لونها اشهب , كانت مخضبة بالحناء , وكان في تلك اللحظة يمسك في يده مسبحة يسبح الله علي حباتها . إنبري رجل آخر, وقال : • مبارك ترك لكم الجمل بما حمل من سنتين, وهذا جزء من فساد النظام الحالي. رد الملتحي وقال : •لو طبقنا الحدود الشرعية, لما وقفنا في هذا المكان. حدود الله تمنع الفساد . كان صراخ هيثم قد أشتد , حاول والده أن يسكته, وقامت أمه بالبحث في «كيس», دون جدوي ,نظرت الزوجة إلي الوالد المتبرم من صراخ إبنه , وقالت : • مفيش لبن. لم نحسب حسابا لمثل هذا الموقف . قال الزوج : • البوفيه فيه ينسون أو كراوية ؟. قال الراكب الذي أمامهم ضاحكا : • لو كان عايز قهوة أو «حاجه ساقطعة» موجود , لكن الينسون والكراوية مش في البوفيه . سمعت أحد المتحدثين يقول : • لو كنا في عهد عمر بن الخطاب ما حدث , وهو الذي قال .لو عثرت بغلة في العراق كنت انا مسئولا عنها . رد صوت آخر: = من فضلكم, نريد أن ننام, أجلوا الكلام إلي أن يتحرك القطار. كان صمت الركاب مريبا , فلا احد يتكلم , ولا تصدر اي حركة في صمت القطار . استبد بي القلق , طلبت رقم شرطة النجدة مرة اخري ,. رد علي أحدهم . أخبرته أننا محاصرون داخل قطار, وان هناك نيرانا علي الطريق أمام القطار, سألني عن وظيفتي, ولم أعرف كيف أخبره, لو أخبرته انني موظف في المعاش, ربما لا يهتم, ولكنه في كل الإحوال لن يهتم, لأنه يخاف فقط من كبار المسئولين. وتصورت انني لواء متقاعد, أو مستشار, واخبرته انني مستشار في محكمة النقض, فاجاب علي الفور : • تحت امرك يا معالي الباشا. • عايز اكلم واحد مسئول . • عايز مين يامعالي الباشا ؟ • أكلم أي مسئول . • طيب حاضر . خليك مع الله. ثم أغلق الخط , لفتت نظري كلمة خليك مع الله , ولم يقل, خليك معي.. وإنقطع الخط .. وطلبت رقم مندوب الأهرام في بني سويف, والذي سبق أن كلمته . رد علي وأخبرني انه تكلم مع المحافظ, وأن المحافظ كلف مدير الأمن , وأن مدير الأمن أنتقل إلي مقر مركز شرطة الفشن, ويجري مفاوضات مع أعيان وكبار الشخصيات في القرية. من أجل إقناعهم بالعدول علي قطع الطريق. مضت ساعتين. ثم انفتح باب العربة , وظهر شاب , وقال موجها كلامه للركاب : • هل يوجد دكتور قلب هنا ؟ لم يرد أحد. ولكن صوت الملتحي المميز قال : • الشافي هو الله . عنده داء لكل دواء . واصل الشاب سيره , ليسأل عن طبيب قلب, في العربة الثانية . . كان هيثم لا يزال يصرخ ,كان صراخه قاسيا . الرجل الذي يجلس في الكرسي خلف الزوجه أبدي تبرمه من بكاء هيثم , وقال لأبوه : • أعطوه سَكًاتَه . نظر إليه الزوج بغيظ , ثم نظر نحوي ليستنجد بي . تبادلنا النظرات . كانت نظرة الزوج تعكس نوع من الخوف من استمرار هذا الوضع , وهو لا يجد غذاء لإبنه المتمرد. تخيلت اننا سنبقي هنا فترة طويلة , ليس معي علاج يكفيني , ثم ماذا سناكل، وكيف سنتصرف لو هاجم الغواغاء القطار . ؟ مرت فترة صمت طويلة .فجأة صاح الرجل الملتحي : • وحدوه . توقع أن العربة كلها سترد عليه, كالمعتاد عندما يسمعون كلمة وحدوه , والغريب أنه لم يرد عليه أحد . . أطل رجل برأسه من الباب , ثم ما لبث أن دخل العربه , يبدو أن الزوج يعرفه , لأنه سأله عن الأخبار . قال الرجل :النار خمدت . كان القطار يقف علي يسار ترعة الإبراهيمية , وانت متجه للجنوب ,وعلي يمينها يوجد طريق القاهرةاسيوط البري المرصوف , وهو الطريق الوحيد الذي يربط القاهرة بالصعيد , ويمر عل معظم مدن الصعيد ,وبجوار الطريق مباشرة , كانت هناك بيوت لقرية لا نعلم اسمها , ورأيت بعض الرجال يتجمعون وينظرون ناحية القطار, علي الناحية الأخري من الترعة . ورأيتهم وهو يقذفون الطوب ناحية القطار , ولكن الطوب والحجارة الصغيرة التي يقذفون القطار بها , لم تعبر الترعة , وكانت تتساقط في الترعة بالقرب من القطار . البقية الجمعة القادمة