تبدو حركة المجتمع المصرى وتحولاته المتنامية فى السنوات الأخيرة مؤشرا على صراع مكتوم حينا، ومعلن حينا آخر، بين المظاهر المدنية الراسخة للدولة المصرية ومحاولة أسلفة المجتمع ودفعه صوب التخلى عن التفكير العلمى فى النظر إلى العالم والأشياء. وربما كان من الموضوعى أن نعترف بأن استخدام الصيغ الرجراجة لم يؤت ثماره يوما ما، فمحاولات التوفيق التى تأخذ بعدا تلفيقيا انتهت إلى اللا شىء، وهكذا توارت مكاسب ثورة يوليو المجيدة 1952 بدءا منذ السبعينيات من القرن الماضي، حيث بدأت محاولات الإجهاز على الإرث الناصرى فى العدالة الاجتماعية وتحديث المجتمع واستقلالية قراره الوطني، وربما كان المسمار الرئيسى متمثلا فى التحالف مع أنماط الرجعية الجديدة العائدة من بلاد النفط، والمستقوية بخطاب دينى وظفته السلطة السياسية آنذاك معتقدة بأنها تخلق صيغتها الخاصة، وأفسحت الطاقات لشيوخ كثر، وعلماء دين، ومدعين، ومزاوجين بين العلم ونقيضه، وبدا الخطاب اليومى المصرى ابنا لواقع جديد فى ظاهره، قديم فى جوهره، وأفسحت البرامج التليفزيونية أمام هذا الخطاب الشعبوى الجديد، وتغولت الجماعات الإسلامية، وبدأت الفتنة الطائفية مصطلحا رائجا عرف طريقه فى الحياة اليومية آنذاك، بعد أن حطمه المصريون بمعول الحقيقة فى ثورة 1919، وعادت الحوادث الإرهابية تشتعل من جديد فى السبعينيات حتى كان مقتل الشيخ الذهبي، ثم كانت الكارثة باغتيال الرئيس السادات فى العام 1981. ويكشف هذا الحماس المفرط صوب أكشاك الفتوى ومحاولة تعميم التجربة عن وعى غض، عديم الخيال، ففى اللحظة التى يجب فيها أن نسعى صوب التكريس لخطاب جامع يتأسس على قيم التسامح والاستنارة والتقدم، ومجابهة التمييز بأى صورة وتحت أى مظلة، ومناهضة مناخات الكراهية التى صاغتها تصورات القتلة من منظرى التطرف، وعززتها الأفعال الإرهابية التى تغتال أنبل من فينا، نجد هذا التكريس غير المفهوم شكلا وجوهرا. وسيكون من المنصف أن نقول إن أى تجربة تكرس لشكل الدولة الدينية حين تضع فتاواها فى نهر الحياة اليومية، وتصادر لدى الناس حق التفكير، وتصوغ الجماهير على اختلافها وفق ما تراه، دون أن تتأمل ولو للحظة واحدة حالة التنوع الخلاق التى يتسم بها المجتمع المصري، بحاجة حقيقية إلى إعادة نظر، ومراجعة لهذا التصور، حفاظا على حيوية المشهد المصري، وروحه الخلاقة. وربما كان من الأجدى تحسين الخدمات اليومية فى وسيلة النقل الأهم الآن «المترو»، والبحث عن صيغ أخرى تخص المؤسسات المعنية بالفتوى نفسها، فتقدم خدماتها كما كانت تفعل، أو حتى بطريقة إليكترونية فى ظل ثورة تكنولوجية هائلة لا تلبث أن تتجدد كل صباح. تبدو المجتمعات أكثر قدرة على مواجهة العالم، وأكثر قدرة على تجديد نفسها بوضع كل شيء موضع المساءلة، لكننا فى واقعنا المصرى والعربى لا نتأمل الشيء إلا بعد الإقدام عليه، ولا نفكر إلا بعد أن تقع الكارثة، وعلى الفتوى أن تظل فى المؤسسات الراسخة لتقدمها فى أماكنها، لأن غير ذلك معناه أننا نضرب بفكرة المواطنة عرض الحائط، وأن المساواة فى الحقوق والواجبات بين المواطنين والتى كفلها الدستور تظل مساواة ورقية فى هذه الحالة، سيكون الأمر عبثيا لو اعتقد من قاموا بوضع أكشاك الفتوى فى محطات المترو بأن هذا رافد من روافد تجديد الخطاب الديني، وستكتمل الدائرة حينما نعلم أننا بحاجة فعلية إلى مراجعة ما يصدر من هذه الأكشاك خاصة بعد ما أورده موقع صحيفة «الفجر» عن تجربة صحافية لإحدى صحافياته الشابات التى توجهت إلى أحد الأكشاك لتطرح عددا من الأسئلة التى تلقت حولها مجموعة من الإجابات الصادمة. ماذا لو كانت هناك قراءة استشرافية لما سيحدث، خاصة أن الأمر جميعه كان سيصبح أكثر بهاء وموضوعية لو كانت الأكشاك تختص ببيع الكتب مثلا، ومن ثم تشير إلى تلك المشتركات الإنسانية العامة، والقيم الفكرية والجمالية التى تؤسس لوعى جديد ومختلف لدى الجماهير. كنا نسمع دائما عن كشك الموسيقي، وأكشاك للكتب، وارتبط الكشك ببيع الجرائد، ظلت مفردة الكشك إذن مقترنة بأدوات تشكيل العقل العام، من موسيقى وكتب وجرائد، أما ارتباطها بالفتوى فهذه نادرة، تذكرك بالأصل التركى للكلمة على الفور، وتحيلك أيضا إلى بيت المتنبى الشهير: «وكم ذا بمصر من المضحكات/ ولكنه ضحك كالبكاء». تنضج التجارب الأمم، مثلما تنضج التجربة الحياتية البشر، ولا شك أننا يجب أن نتفق على ما يجمعنا، وأن ندرك أن انشغالنا بالمستقبل يقتضى منا أن نحسن إدارة الراهن، فالمستقبل تصنعه المعرفة، ولا شيء غيرها، وأكشاك الفتوى تكريس جديد لشكل الدولة الدينية فى سياق تسعى فيه الدولة المصرية صوب مجابهة التطرف والإرهاب، وهذا التناقض يجب التوقف أمامه، ومعالجته، وأظنه أثرا من آثار تلك الصيغ الرجراجة التى أشرت إليها فى البداية. وبعد.. إن اعتقاد البعض أن ترشيد السلوك المتطرف سيتم عبر هذه الأكشاك اعتقاد وهمى فى الحقيقة، لأن البداية الحقيقية فى مواجهة التطرف ستكون بآليات فاعلة لمواجهة تقديس الماضى وجعله زاوية النظر الوحيدة والدائمة تجاه الحاضر، فمن المفارقات المحزنة حقا أننا بدلا من أن نرى مشاكلنا فى مرآة ذواتنا الحاضرة وعالمنا الراهن، نمعن ونتفنن فى رؤيتها وفق الماضى بوصفه الملاذ الآمن لنا، وهذا الهروب المخزى سندفع ثمنه جميعا إذا لم ننتبه إلى أن الجبن العقلي، وسحق الخيال، وتنميط البشر، ومحو فرديتهم، سيحيلنا إلى أكشاك خربة ومهشمة. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;