بعد سنين طويلة من النضال والمظاهرات والاعتصامات, وبعد سنين طويلة في السجون والمنافي والمعتقلات تمكنت طلائع التغيير في مصر من خرق الجمود القاتل, واسقاط المعتقد الشائع وتسجيل اكبر انتصار شهدته أرض الكنانة, واهتز له العالم. واعتز به أبناء العروبة والحرية في كل مكان, وقد أحيا هذا الانتصار الامل في النفوس وأعاد الثقة بالحركة الشعبية وذكر كل من يهمه الامر, ولاسيما المتسلطين منهم, ان الثورة المصرية ليست حركة عابرة انما هي حقيقة راسخة ولدت من رحم الاحزان لتمسح الصدأ عن وجه مصر فيشرق من جديد بردا وسلاما علي أرواح الشهداء والمظلومين والغلابة والمناضلين وكل مصري مؤمن بربه, مخلص لبلاده متمسك بحقه. وبفعل الثورة تدخل مصر مرحلة تاريخية جديدة تخلع فيها رداء السكون والاستبداد لترتدي حلة الحرية والحركة, وتنتقل من دائرة التلقي والانفعال إلي مسرح العمل والتأثير, وتشكل حضورا متجددا لايمكن لاحد أن يتجاوزه بما ينعكس خيرا علي أهل مصر والشعوب العربية المتعطشة إلي ملء الفراغ وعودة مصر إلي ذاتها وممارسة دورها الفاعل علي الصعيدين العربي والإقليمي, ولاسيما علي المستوي الفلسطيني حيث تمعن اسرائيل في عملية التهويد والتفتيت مستفيدة من عجز الانظمة العربية وتواطؤ المجتمع الدولي. ولقد علمنا التاريخ ان لاغني عن مصر لحماية الحقوق العربية مثلما علمنا ان لاغني عن المدي العربي لحماية مصر من العدوان الخارجي, فالروابط التي تجمع مابين مصر والاقطار العربية تتعدي اللغة والايمان والاخوة القومية لتتصل ايضا بالمصالح الاستراتيجية الكبري التي تملي علي مصر كما علي الاقطار العربية التقارب والتفاهم واعادة بناء المؤسسات العربية الجامعة وتطويرها كي تكون موجودة بفعالية علي المدي الاقليمي وسط عالم لايكترث بالضعفاء, ولا يتعامل إلا مع الاقوياء الذين يعرفون كيف يوحدون جهودهم, وينظمون خلافاتهم وينسقون سياساتهم, ويستثمرون مواردهم ويدافعون عن حقوقهم, وقد كان المراقبون الدوليون علي حق عندما اعتبروا الثورة المصرية مصدر إلهام لشعوب العالم وقد أكدت عنفوان الشعب المصري واثبتت قدرته علي كسر حاجز الخوف, واسقاط نظام الوراثة والقمع الذي استهتر طويلا بالشعب وادار ظهره للعراق وفلسطين ورهن قرار مصر لدي الخارج وروج لفكرة التبعية للاجنبي لتحقيق النمو الاقتصادي فخسر الكرامة ولم يحصل علي الخبز, ليجد نفسه في نهاية الطريق وجها لوجه مع العدالة التي أحيا الشعب المصري بتضحياته الجسيمة مفهومها الصحيح. تعيش مصر في هذه المرحلة صراعات محتدمة علي غير صعيد ومما لا شك فيه ان الانشغال الرئيسي الآن, هو داخلي بامتياز ويتجه نحو إعادة بناء الدولة بعد تداعي مؤسساتها التي فشلت في أداء مهامها, ونحو تشكيل معادلات جديدة بين مكونات المجتمع بعدما انتكست تلك المعادلات القديمة وظهر ضعفها. علي أن الواقع يشير الي تداخل هذين الاتجاهين وترابطهما لأنه لم يعد بالإمكان بناء سلطة جديدة علي اسس ثابتة مستقرة وديمقراطية بعيدا عن فكرة المشاركة والتكامل التي تتيح للجميع ان يكون له دور وان يتمتع بنفس القدر من الحقوق علي اعتبار ان الدولة الحديثة لا تميز بين افرادها علي اساس اللون أو الجنس أو الدين. ان المواطن المصري الذي يكدح لإطعام عائلته ويجتهد للوصول علي أنبوبة غاز منزلي يعرف تماما ان جزءا من مشكلته يعود إلي فساد طبقة الحاكمة التي كانت تعقد اتفاقات ظالمة بحق مصر ويعرف ايضا ان اسرائيل التي تشتري الغاز المصري بأرخص ترفض الأسعار وتحرم المصري من ثرواته الطبيعية لتتمكن من توليد الطاقة بكلفة متدنية ترفض ان تبيع لمصر أي سلعة بأقل من سعرها العالمي وترفض ايضا ايقاف مؤامراتها علي مياه النيل مصبا ومجري. ان ازالة الاجحاف الحاصل علي مصر هو حق لمصر علي ثورتها بصرف النظر عن تفاهمات تمت في السابق من وراء ظهرها وفي ظروف يعلمها الجميع, ولنأخذ مسألة الطاقة علي سبيل المثال فكما ان للنفظ سعره العالمي كذلك سعره العالمي ولا يوجد بلد في العالم يبيع ما لديه من فائض في مادة النفط أو الغاز بأقل من السعر الذي تقرره الأسواق الدولية واذا مارست مصر حقها في هذا المجال فليس لاحد أن يسألها وانما السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو ما حجم الخسائر التي تكبدتها لسنوات خلت جراء اتفاق ترتسم حوله مليون علامة استفهام وما هي التعويضات التي تترتب لها نتيحة ذلك الأتفاق المشوب بالعيب والغبن من كل وجوهه. ويعد من حق العرب واهل فلسطين بصورة خاصة ان يحتفوا بالثورة المصرية وان يعقدوا عليها الآمال مدركين في الوقت نفسه واجباتهم حيالها بالدعم والاحتضان والتفهم فهذه الثورة الناهضة والمحاصرة في آن تمثل تحولا خطيرا ومؤثرا في واقع المعادلات الأقليمية والدولية ومستقبلها والكل يدرك ان ما تقرره مصر له وقعه وارتداده في العواصم العربية والإسلامية وسواها. واذا كان العالم يتابع باهتمام شديد كل خطوة تخطوها هذه الثورة وتسعي بعض قواه النافذة الي ممارسة الضغوط عليها بهدف احتوائها قبل ان يشتد عودها فإن الثورة تدرك بالمقابل حجم المسئوليات الملقاة علي عاتقها وخطورة التحديات التي تواجهها وتدرك ايضا ان سياسة النأي بالنفس لاجدوي منها في عالم معاصر, واذا كانت مصر تعرف انه لا بديل عن الوحدة الداخلية والاتحاد العربي للتوازن والتفوق علي الأستحقاق السياسي والأمنية والاقتصادية التي تداهمها فإن من مصلحة الأطراف الداخلية والعربية تغليب منهج التفاهم والتنسيق الذي تتطلع اليه الجماهير علي منهج التنافر والتفتيت الذي تسعي الي تأييده قوي الماضي. لقد طال شوق العرب الأحرار الي مصر محجتهم الثقافية ومرجعيتهم وقلعتهم الحضارية علما بأن هؤلاء لم يفقدوا الثقة يوما بمصر وقدرتها ورغبتها في العودة الي ذاتها ودورها وبيئتها القومية التي تمتد من المحيط الأطلسي الي الخليج العربي ومن اعماق افريقيا الي تخوم أوروبا.