في حديث يتصل بدعوتي الي أن يصدر دستور الجمهورية الثانية باسم الأمة المصرية, أسجل أنه رغم استمرار الأساس المتين لوحدة مصر الوطنية منذ فجر العصور الفرعونية. فقد تحولت الأمة المصرية في معظم تاريخها الوسيط الي أمة غير واعية بذاتها, أو أمة في ذاتها, ولم تصبح أمة واعية بذاتها, أو أمة لذاتها, إلا مع العصر الحديث. وقد تجلي هذا الوعي في هتاف القوي الوطنية الديمقراطية في ثورة25 يناير: ارفع رأسك فوق.. أنت مصري!! قبل أن تحول القوي السياسية الاسلامية مجري الثورة رافعة شعار: ارفع رأسك فوق.. أنت مسلم!! وقد يجدر قبل تفسير هذا التحول أن أشير الي جديد مهم وملفت كتبه الدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين بجريدة الأهرام في13 فبراير2012, يقول:' لنربط ماضينا العظيم وتاريخنا العريق بحاضرنا ومستقبلنا المشرق بإذن الله, الذي سنشترك جميعا في صناعته.. كما صنعنا حضارتنا الفرعونية القديمة, واشتركنا في صنع حضارتنا القبطية وحضارتنا الإسلامية الممتدة.. فإن مصر تجمع الرحيق من كل الحضارات وتهضمه وتخرجه عسلا غذاء وشفاء بخلطة ونكهة مصرية أصيلة'. لكن هذه الرؤية الثاقبة الواعية والتي أظنها غير مسبوقة في خطاب أي مرشد للجماعة, وردا لاعتبار مصر والمصريين بعد صيحة المرشد السابق النكراء بأن طظ فيهما تبدو وكأنها مجرد رسالة عابرة الي من يهمه الأمر!! فهذا الفخر بحضارتنا الفرعونية والقبطية والاسلامية معا في خطاب المرشد بديع لم يكن له صدي في خطاب جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة السياسي والإعلامي والدعوي, ولا في الوعي الجمعي والخطاب السياسي لقياداتهما وأعضائهما; وغاب للأسف في خطاب الرئيس مرسي, قبل أو بعد انتخابه. ولا أتحدث هنا عن حلفاء جماعة الإخوان المسلمين من أحزاب وجماعات وشيوخ السلفية, الذين يحفل خطابهم بكراهية تصل الي حد التحريم لأي فخر بحضارة مصر الفرعونية والقبطية, وكأنه كان علي المصريين أن يؤمنوا بالإسلام قبل نزوله!! وكأن إبداع المصريين للحضارة الإنسانية واكتشافهم للضمير والخلق الرفيع وإيمانهم بالخالق والبعث والحساب قبل الأديان السماوية بآلاف السنين ليس مما يدفع السلفيين المصريين للفخر بالانتساب الي أمتهم المصرية وإعلاء رايتها الوطنية; دون خشية علي إسلامهم أو عروبتهم. وفي هذا السياق يبرز سؤال هذا المقال الذي يتصل بالمستقبل بقدر ما يتعلق بالمضي, وهو: لماذا تحولت الأمة المصرية في معظم تاريخها الوسيط الي أمة غير واعية بذاتها, وهو ما يريد بعثه السلفيون من كل نوع؟؟ وأظن أن كتاب الدكتور صبحي عبد الفتاح وحيدة في أصول المسألة المصرية, والذي صدرت طبعته الأولي في عام1950, كان تجتهادا رائدا أصاب وأخطأ في محاولة الإجابة عن هذا السؤال. فنقرأ فيه أن أبناء مصر في زمن الفتح العربي لمصر كانوا قد انحدروا الي فقد للشعور بمصريتهم; يبدو بشكل واضح في كتابة القس يوسف نقيو. فهذا المؤرخ القبطي, الوحيد الذي أرخ الحملة العربية بعد حدوثها بسنوات, يطلق علي المصريين رعايا الإمبراطورية البيزنطية الأمناء! ويعتبر سكان الإمبراطورية جميعا إغريقا! ويرجع انهزام الروم أمام العرب إلي مجرد تنكيلهم بالقبط! ولا يبدي في تأملاته أي شعور مصري!! ثم أقبلت القبائل العربية علي مصر عقب الفتح في موجات متوالية, ولم تقطع صلتها بقبائل الجزيرة والشام وشمال إفريقيا, خصوصا ما استجلبه الولاة من هذه القبائل لتعزيز سلطانهم الظالم, أو لإخضاع الانتفاضات المصرية, أو لاستزراع الأراضي المهجورة. وما نكاد نبلغ القرن الثامن, ونلقي أول مصري كتب عن مصر بعد الفتح وهو ابن عبد الحكم, حتي نجدنا أمام مجتمع عربي, ليس في عروبة من ليس من أصل عربي فيه أي تكلف أو تزييف, وينتسب لأصل عربي, ويسمي ابن عبد الحكم وتقي الدين المقريزي. وفي رأي ابن عبد الحكم ذاته ومعاصريه المسلمين فان مصر عربية منذ أن كانت الخليقة, وليس في تاريخها الطويل ما يستحق أن يذكر سوي إيثار النبي القبط وبغض الله كفر المصريين الأولين. وظل الي حد بعيد رأي من كتب بعدهم حتي الجبرتي, لأنهم ربوا عليه, وربي عليه كل من نشأ في مصر- من أصل مصري أو غير مصري- مادام مسلما, وصاروا لا يعون أنهم أصحاب قومية خاصة!! ويري وحيدة أن العلة في هذا التحول- إلي جانب الهجرة العربية- هي طبيعة المجتمع المصري قبل الهجرة. فقد كان المصريون ينزعون في حياتهم نزعة دينية بارزة, ويميلون إلي عد من يدين بدينهم منهم, ويميزون بين الناس علي أساس عقيدتهم الدينية قبل كل شئ. وكانت مصر أول دولة حاولت أن تضم أطراف إمبراطوريتها في دين واحد بثورة اخناتون الدينية, وكانت الكنائس المصرية أول كنائس بشرت بعقائدها في بلاد أجنبية. وخاصم المسيحيون الجدد أعداءهم في الدين, ولو كانوا جميعا أبناء جلدة واحدة. فيضطهد الإمبراطور ماكرينو- وهو مصري- المسيحيين المصريين, كما لم يضطهدهم إمبراطور من قبله. ويعتدي مسيحيو الإسكندرية علي معابدها التي تركها لهم آباؤهم. ويخرب البطريرك شنودة معابد أخميم ليبني بحجارتها أديرته, وكان لا يذكر الفراعنة إلا ماثلا بهم, كما كان يفعل معاصروه المسيحيون. وجاء المجتمع الاسلامي في مصر كالمجتمع المسيحي الذي تقدمه, مجتمعا دينيا يقوم علي العقيدة, ولا يعرف الحدود الإقليمية أو الجنسية. وقد كانوا يقولون عادة فلان القاهري المولد ولا يقولون فلان المصري. ونحن نقرأ كتب تغري بردي المملوكي الدم وابن إياس التركي الأصل والجبرتي الحبشي الجنس, ولا نجد لدي واحد منهم صدي ولو بعيد لعصبية عرقية واعية. والعصبية قابلة لفقد الشعور بنفسها والتواري إذا لقح أهلها بدم جديد, فلم يعرف المصريون الذين أسلموا غير العصبية الإسلامية- إن جاز التعبير- فحاربوا من اعتبروهم خصوما للإسلام حتي حين كانوا أقباطا, أي مصريين!! والذي يقرأ التراث الثقافي الاسلامي يميز فيه التفكير المصري; أي تفكير أهل مصر, لكنه لا يميز قومية مصرية. وكان المصريون يثورون المرة تلو المرة فيسحقون بحملات تأديب. وتقرأ لمؤرخي ذلك العصر من المصريين فنجد سقوط الدول والسلاطين يبعث في نفوسهم الإشفاق علي مصالح الناس أو عزة الإسلام أو خراب الدولة أو كل شئ.. عدا الشعور بكرامة وطنية ديست أو عزة قومية جرحت!! ويقول ابن إياس في تأريخه للاحتلال العثماني: ومن العجائب أن مصر صارت نيابة بعد أن كان سلطان مصر أعظم السلاطين في سائر البلاد قاطبة لأنه حامي ملك مصر, الذي افتخر به فرعون اللعين قائلا: أليس لي ملك مصر, متباهيا به علي سائر ممالك الدنيا!! ورغم هذا كان المصريون- المسلمون والمسيحيون في زمن الحملة الفرنسية لا يذكرون من ماضيهم القديم شيئا. ولم تخطر علي بال المصريين والسيد عمر مكرم زعيم أكبر حركة سياسية هزت كيان السلطنة العثمانية فكرة الاستقلال عنها!! وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم