لفت عنوان ورقة سياسات لمجلس اللوردات البريطانى نظرى إلى أن هناك من يفكر فى الوضع فى الشرق الأوسط من منظور يسبق الأحداث الجارية، وهى عادة إنجليزية خالصة من القوى الاستعمارية القديمة. فالدراسة التى صدرت فى مايو الماضى تحت عنوان «الشرق الأوسط: توقيت الواقعية الجديدة»، تقول من البداية إن توقع كيف ستتطور الأوضاع فى المنطقة مسألة صعبة، وأن هناك تحديا فى وضع توصيات أمام صانع القرار وصاحب القرار بدوره عليه أن يستعد على نحو متزايد للتعامل مع بنية جديدة للقوة خارج الأطر التقليدية التى تعمل من خلالها الحكومات اليوم. قامت مجموعة عمل تابعة للجنة العلاقات الدولية بمجلس اللوردات بإجراء استقصاء واسع للخبراء والسياسيين وشهود من المنطقة فى المدة ما بين أكتوبر 2016 وإبريل 2017 حيث وصف هؤلاء ما يمر به الشرق الأوسط بانه مرحلة «انتقالية» وأنها مازالت فى منتصف تلك العملية أو كما وصفها ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى فى شهادته بإنه «لا بصيص من عودة الحياة لطبيعتها»، الموجود هو حالة «عدم استقرار لفترات طويلة» حيث البيئة الدولية تتسم بتفاقم «انعدام الأمن» بسبب تباين مصالح القوى الدولية، فتوجد إدارة أمريكية لا يمكن التنبؤ بأفعالها، وروسيا تسيطر عليها «الانتهازية»، بينما الصين قوة صاعدة جديدة لا تزال غير راغبة فى تحمل المزيد من المسئولية عن أمن المنطقة. وفى ظل هذا النقص فى التوافق الدولى تضعف قدرة المؤسسات العالمية على القيام بأدوارها. ---- تشير استخلاصات فى التقرير إلى أن «تآكل حدود الدول التقليدية، التى تم ترسيمها منذ قرن، أدى إلى تفتيت الشرق الأوسط إلى مناطق شبه مستقلة ومقاطعات قوية. وقد أدت اتجاهات الطرد المركزى وضعف هياكل الدولة إلى نشوء جماعات خارج سلطة الدولة. وأدى خروج السلطة إلى أيد غير تابعة للدولة إلى خلق نمط من القوة والنفوذ، يتسم بالتعقيد ومثير للجدل أيضا». عن المتغير الاجتماعى الداعم لحالة عدم الاستقرار الحالية يقول التقرير: «..هناك تأثير شعبى قوى من التواصل والتفاعل السياسي، مدفوعا بالتوسع التكنولوجى والوجود الجماعى على الانترنت على نطاق لم يسبق له مثيل. وقد أدت وسائل الإعلام والتكنولوجيا الجديدة التى تواكبت مع جيل شاب صاعد إلى إحداث تغيير اجتماعي». تحديدا، يوجد متغيران اجتماعيان: هيمنة جيل الشباب وانتشار التكنولوجيا، وهو ما يمثل عنصر تفاؤل، وإن كانا ينطويان أيضا على مخاطر (77% من الشباب العربى يحصلون اليوم على أخبارهم من مصادر الانترنت ووسائل الإعلام الاجتماعية). ويفسر الاهتمام بالشرائح الشابة فى المنطقة العربية من جانب الأجهزة البريطانية النشاط الكبير لسفراء المملكة المتحدة على مواقع التواصل الاجتماعى فى سائر دول الشرق الأوسط حيث يضرب التقرير أمثلة من أنشطة هؤلاء السفراء على موقع «تويتر». وتعكس استخلاصات تقرير «اللوردات» الهاجس المتنامى من الطفرة الشبابية فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث يشكل الشباب (15-24 عاماً) أكثر من ربع السكان. وفى بعض البلدان، تكون النسبة أكبر من ذلك بكثير مثلما هو الحال فى الأردن حيث 70 فى المائة من السكان دون سن الثلاثين. كما يرصد التقرير الفجوات التى تزداد اتساعا فى الثروة- داخل الحدود وفيما بين بلدان المنطقة. فوفقا لتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي، ارتفعت الأرصدة الأجنبية لدول مجلس التعاون الخليجى إلى 2.27 تريليون دولار، فيما سجلت احتياطيات العملة الصعبة فى مصر وسورياوالأردن ولبنان وتونس والمغرب عجزا قدره 46.7 مليار دولار فى عام 2014. وقد نمت الثروة السائلة المملوكة للقطاع الخاص فى دول الخليج من 1.1 تريليون دولار عام 2010 لتصل إلى 2.2 تريليون دولار فى 2014. ويلمح التقرير البريطانى الرفيع المستوى إلى أن خطر الحرب المذهبية الواسعة النطاق يلوح فى الأفق حيث تشكل المنافسة بين السعودية وإيران عاملا مهما فى (إمكانية) اندلاع حرب دينية خارجة عن سيطرة الدول، بالإضافة إلى ما سماه التقرير «التوترات داخل معسكر الإسلام السني»، بين الشكل المتطرف للإسلام السلفي، الذى يمثله داعش والقاعدة، وبقية مدارس الإسلام السنية! وقال اللورد مايكل ويليامز (توفى الشهر الماضي) أن هناك صعوبة فى رؤية «الدول القومية» فى المنطقة تسيطر على جميع أراضيها فى السنوات المقبلة»، والعبارة اللافتة هى أن الحدود قد «أعيد تعريفها» وأن الحدود غير الرسمية مثل تلك التى بين حكومة إقليم كردستان والعراق اليوم هى «أقوى بكثير من الحدود مابين العراقوسوريا». ويشير الخبراء فى التقرير إلى إن سورياوالعراق هما الأكثر ضعفا إلا أن الدعوة إلى تقسيم البلدين على أسس عرقية أو طائفية قد أثارت أسئلة عملية وإستراتيجية ويوضح أيهم كامل، مدير الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى مجموعة أوراسيا، إن الحرب الأهلية فى سوريا «لا يمكن حلها فقط من خلال خلق قطع صغيرة، لأن المشكلات التى نراها فى العراق اليوم سوف يتم تكرارها على نطاق أكبر بكثير فى سوريا». ويتفق هيد هيد، زميل مشارك من مؤسسة «شاتام هاوس» البريطانية على أن أحد «المفاهيم الخاطئة الرئيسية» بين الخبراء والحكومات الغربية هو أن تقسيم سوريا سيكون حلاً. ويقول حيدر الخوئي، مدير البحوث بمركز الدراسات الشيعية إن فتح «صندوق باندورا» بالتقسيم على أسس عرقية طائفية سيقود «سباقا إلى القاع» داخل كل كانتون أو دويلة تظهر بعد التقسيم حول من هو أكثر سنياً، ومن هو أكثر شيعة، أو من هو أكثر كردية (صندوق باندورا فى الميثولوجيا الإغريقية هو صندوق تحمله فتاة بالاسم نفسه وبداخله كل شرور البشرية). ---- هذا التقرير يقول لنا كيف يرانا الغرب من واقع تطورات ما بعد ثورات الربيع العربى.. لو جاز لنا أن نسميها هكذا اليوم! فى المقال المقبل نتطرق إلى توصيات مجلس اللوردات عن كيفية تعامل بريطانيا والغرب مع الشرق الأوسط فى المستقبل. [email protected] لمزيد من مقالات عزت ابراهيم;