أمام بيتنا بمصر الجديدة شجرة جميلة أقتسمت معها رحلة العمر والذكريات ...هي شاهدة علي العمر بلحظاته الحلوة وأيامه الكئيبة ..في كل مرة شعرت بالضيق أو الضجر أو اليأس كنت أفتح شباك الغرفة وأنظر لها قائلة : عاجبك كده ؟! والغريب انه في كل مرة أشكو لها تفاجئني بتحريك أفرعها وأوراقها الوارفة كأنها تطبطب علي ..معلش ..معلش أصبري! كنت أشعر وقتها أن بيتنا هو بيت الشجرة أولا ونحن نعيش برفقتها ..فهي بالتأكيد علامته المميزة. ............................................. هل تصدقوني لو قلت لكم أنني كنت أميز البيوت في شارعنا برائحة الأشجار ؟ هنا بيت جارنا العزيز د.سليمان حيث شجرة الياسمين برائحتها النفاذة ..نفحة منها ترد الروح المتعبة ..وبعدها بخطوات بيت (سيدة الشباك ) كنت ألقبه هكذا لأن صاحبته كانت دائما تقف في نافذتها البيضاء ناظرة للسماء ..كنت أعرف البيت برائحة أفرع الفل التي تتدلي علي الحائط وتكاد تلامس رأسك وأنت تسير تحتها ...كأنها تداعبك وتقول لك صباح الفل )! ) شجرة بيتنا لم تكن تثمر غير في شهر يونيو فقط ..تخضر مع بداية الربيع ثم فجأة مع بدايات يونيو تتألق الشجرة وتتزين بزهور متوهجة ورائعة الجمال ..زهور حمراء وبداخلها زنبقة صغيرة بيضاء! كنت أقنع أمي أن شجرة بيتنا تحتفل بعيد ميلادها في يونيو وأقول لها هل عندك تفسير آخر؟ كانت تضحك ولا تعلق وإن كنت ألمح علامة الرضا علي وجهها المضيء! كنت ألقب أمي بزهرة يونيو ..كانت تضحك رغم تعبها وسنوات مرضها الأخيرة ..رحلت أمي وبقيت الشجرة شاهدة علي أحداث العمر ورحيل صاحبة الزهرة ..وللأسف مع بداية هذا العام قام الحي بتقليم جائر لشجرتي الحبيبة ..حرمني وحرمها معي من زهورها الحمراء الجميلة ..لا أستطيع أن أصف لكم ما أحسست به من ألم ومرارة عندما رأيتها واقفة مجردة من أفرعها وورقها وحلمها في الإثمار ..أحسست أنني فقدت أمي مرة ثانية ..وحرمت أن أحتفل ولو رمزيا بصاحبة الزهرة! هل أنتهت الحكاية؟! أبداً. الطبيعة تعطينا دائما دروسا مجانية وإشارات لمن يريد أن يفهم ويستوعب ..مع بداية هذا الشهر فوجئت بأن الشجرة التي تقع في الجهة المقابلة لبيتنا قد أثمرت نفس الزهور الحمراء بالزنبقة البيضاء وهذا لم يحدث أبدا من قبل! لم أصدق عيني وأنا أراها ..نفس الجمال والنضارة ومش عايزة أقول ربما أجمل! لم يحرمني القبح ومعدومو الإحساس بنعمة الجمال من الاحتفال بزهور يونيو وبصاحبة الزهرة ..المدهش حقا أنني وجدت شجرتي المفضلة بزهورها الحمراء البديعة في عشرات الميادين التي تجولت بها أمس ...استمعت بمظاهرة الأشجار المساندة لي ولأحلامي البسيطة ولم تحرمني الطبيعة من احساس أنتظره كل عام ..لم تثمر شجرة بيتنا هذا العام ولكن في المقابل وجدت المئات من أشجار زهور يونيو الجميلة.. بأفرع خضراء بسيطة تغطت بها وعدتني شجرة بيتنا بأنها ستكون في انتظاري في يونيو القادم بإذن الله لنحتفل معا كما اعتدنا كل عام.