الإجراءات التى اتخذتها مصر والسعودية والإمارات والبحرين أخيرا، تندرج تحت بند المقاطعة السياسية والاقتصادية، اعتراضا على تصورات وتصرفات أضرت بمصالح هذه الدول، ولم تظهر أى رغبة لفرض حصار على قطر وتجويع شعبها أو مواطنى الدول التى تعيش على أرضها. الخطاب السياسى والإعلامى القطرى يتعمد الحديث عن حصار إنساني، ويتجاهل المقاطعة وأسبابها ودوافعها وضروراتها، أملا فى الإيحاء بأن هناك ظلما يقع على الدوحة ونظامها الحاكم، بل هناك «مؤامرة» تحاك عقابا على مواقفها «القومية». الخلط المتعمد، هدفه الابتعاد عن جوهر القضية والانحراف بها إلى دروب ودهاليز تتوه معها التفاصيل الرئيسية، فى محاولة لتفقد الوقفة العربية الحاسمة حيويتها، وعدم القدرة فى الحصول على نتائج تؤدى إلى ردع قطر ووقف ممارساتها السلبية التى أدت إلى المأزق الراهن. اللافت أن خطاب الحصار، وضع قطر من حيث لا تدرى فى المربع ذاته مع جماعة الإخوان والتنظيمات المتشددة والمسلحة، والتى يعد دعم الدوحة لقياداتها ومساعدتهم على العنف والإرهاب سببا للأزمة التى تعيشها الآن، بالتالى فإنكار العلاقة الودية بين الجانبين ليس بحاجة إلى أدلة، والإمعان فى مفردات الرؤية القطرية يضع الدوحة مباشرة مع هؤلاء، الذين درجوا على الترويج بأنهم منبوذون ومحاصرون ومظلومون وثمة اتجاه عام يريد إخراجهم من أى معادلة سياسية. فلسفة هذا الخطاب تقوم على استدرار العطف من فئات واسعة، عربية وغير عربية، وإقناعهم بأن هناك دولة أو جهة تتعرض للاضطهاد والظلم، فينتفض الناس مؤيدين لها ويهبون مدافعين عنها فى مواجهة «الطوفان» الذى يستهدفها، عقابا على مواقفها وأدوارها التى تردد أنها عادلة. الغريب أن حلفاء قطر، من الذين أدمنوا استخدام هذه اللغة، لم يحققوا نتائج مغرية ولم يلتفت إليهم كثيرون، وظلوا مصرين على هذا الخطاب، لأنهم لا يملكون أدوات أخري، الأمر الذى تفعله الدوحة الآن، فهى تواجه العاصفة السياسية التى اندلعت من رحم عوامل موضوعية بطريقة بدائية، وكأنها لم تتعلم من دروس الماضي، ولم تستفد من الأخطاء التى وقعت فيها جهات كانت سببا فى المأزق الذى تعيشه. العزف على وتر الحصار لم يقنع أحدا بالخطاب القطري، وبعد مُضى نحو عشرة أيام على الأزمة وتداعياتها لم تتحرك جهة عالمية بجدية وتمد يدها لمساعدة قطر، وربما العكس تتوالى ردود الفعل بصورة صادمة، والجولات المكوكية التى يقوم بها وزير خارجية قطر وجاب فيها عددا من العواصم لشرح رؤية بلاده الرمادية، لم تسفر عن نتيجة إيجابية. قطر لم تدمن المظلومية فقط، بل أضافت إليها قدرا من التعالى والغطرسة، فهى لم تعترف بأن هناك أزمة حقيقية وتتعامل معها باعتبارها عابرة، وبدلا من أن تتبنى خطة للمراجعة وتصحيح الأخطاء وتخفيف الأضرار، راحت تلجأ إلى الاستعانة بإيران التى تعتبر من أهم المنغصات فى المنطقة، وتتمسك بدعم العناصر التى كانت سببا فى أزمتها وتنكر أنها طلبت رحيلهم من أرضها. الأدهى أن هذا التصرف مبنى على نصيحة خاطئة تقول إن تقديم تنازلات يستوجب المزيد منها، لذلك تتشبث بموقفها الرافض للاعتراف بالخطأ، والذى يراهن على تفكك التحالف العربى الذى يقف بصرامة فى مواجهة قطر، دون أن تدرك أن دوافعه إستراتيجية ويحظى بدعم قوى كبري، عبرت عن مخاوفها، صراحة وخفية، وتضررت من مخاطر الدور الذى تقوم به الدوحة ويهدد الأمن الإقليمي، واستمراره يمثل تهديدا مباشرا للخطط الرامية لمكافحة الإرهاب فى المنطقة. الثغرات التى تحاول قطر النفاذ منها هزيلة، فهى تحاول بشتى الطرق شق التحالف العربى والتعامل مع الأزمة بأسلوب المكايدات وتخص البيت الخليجى وتتعمد تجاهل مصر، فى محاولة لتصويرها «مجرد تابع»، مع أن الدوحة تدرك أن الموقف الحاسم الذى أيدته السعودية والإمارات والبحرين وغيرهم، هو رؤية مصرية بامتياز وعبر عنها صراحة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى قمة الرياضالأمريكية العربية الإسلامية الشهر الماضي، وجرت الإشارة إليه فى تصريحات كثيرة. الغضب الظاهر فى المعالجة القطرية، يكشف لأى درجة أصبحت الدولة - الإمارة ملتصقة بتنظيم الإخوان، ودفاعها عن الجماعة مسألة حياة أو موت، لأنها تتعلق بثوابت أيديولوجية وليست سياسية، وتعى أن الفكاك منها أو الانصراف عنها عملية غاية فى الصعوبة، يمكن أن تقود إلى انهيار الإمارة والتنظيم معا، فى ظل الفتور الحاصل فى العلاقة حاليا مع كثير من القوى الإقليمية والدولية التى مثلت سابقا غطاء حيويا لكليهما، وحجبت عنهما حزمة كبيرة من العقوبات. التماهى والالتصاق بين التنظيم والإمارة، جعل المعادلة التى تدار بها الأزمة صفرية، فالدول الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) مصممة على تحقيق الأهداف التى بلورتها الرياض فى عشر نقاط، وجميعها تدور حول فك الارتباط تماما بين قطر والإرهاب، والدوحة وحلفاؤها من المتشددين والمستفيدين عازمون على المضى فى ممارساتهم، بالتالى أصبحت فكرة الوصول إلى حل وسط عملية صعبة. إذا كانت الحيل التى قامت، ولا تزال، بها قطر لم تحرك ساكنا حتى الآن، ونجحت الدول العربية فى تثبيت التهمة عليها بالوثائق والمستندات، فما هو الرهان الذى تعول عليه الدوحة لتغيير المعادلة؟ الواقع أنها لا تملك أدوات فعلية تستطيع بها تعديل الدفة لصالحها، لكن الخيال الذى يسيطر على عقول أصحاب التفكير العقائدى ليس بعيدا عنها، فهناك قطاع كبير فى صفوف الإخوان يزعم أن الرئيس المعزول محمد مرسى راجع، ورغم كل الشواهد العلمية التى تنفى ذلك، إلا أن الأمل يراود أصحابه، وتحرص القيادة على تغذيته ومد أنابيب الأوكسجين إليه بأدوات وذرائع مختلفة، لأن انقطاعه يمكن يؤدى إلى انصراف الجمهور وموت الجماعة إكلينيكيا. هكذا تبدو قطر تعيد سيناريو الجماعة من خلال ترديد أن ما يجرى حصار لا مقاطعة، وتعزف على وتر المظلومية التاريخية، وتعتقد أن إمساكها بدفة الأمور عملية مستمرة، والتخلى عن كل ذلك معناه خسارة جمهور المتشددين والسقوط فى بئر الخيانة، لذلك ارتاحت لأن تسقط بأيدى الخصوم بدلا من الأصدقاء. لمزيد من مقالات محمد أبوالفضل