تفجرت قنبلة متطورة فى قاعة للاحتفالات فى مدينة مانشستر فى شمال إنجلترا وهى مدينه يرمز اليها برمز النحلة تجسيداً لتاريخها فى الثورة الصناعية ووحدة الطبقة العاملة بها. سقط الضحايا فى ساحة تؤمها البنات والصبيان الخارجون من سنى الطفولة إلى حدود المراهقة. فيملأون الأجواء بضجيج وصخب سعيد فى براءة لا تتوقع شراً. وككل مدن أوروبا اختلطت الأعراق والأديان من الايرلنديين للهنود لأبناء شرق أوروبا من مسلمين ومسيحيين وملحدين ويهود. فلقد امتزج الناس فى بوتقة أوروبية، فأحب الفتيان الفتيات وتشارك الجميع فى تشجيع الفرق الرياضيه مثل (مانشستر يونايتد) أو لعب (الكريكيت). التعايش والتسامح فى أوروبا وشمال أمريكا حقيقة لا تحتاج لتأكيد. فالمجتمعات الصناعية تحتاج التعدد وحرية الحركة كأحدى ضرورات النجاح. فهكذا تزهو اوروبا بتعددها وبتنوعها وتظهره متباهية كأحد مظاهر الحضارة والتمدن. فالمذيعون فى أهم نشرات التليفزيون البريطانى يحملون أسماء هندية أو ملامح إفريقية أو عيوناً عربية. تلك المظاهر البراقة حقيقة. ولكن الحقائق أيضا تتعايش، ومنها أن هناك مهاجرين آخرين يحيون فى مستنقع عميق للفقر والاستبعاد الاقتصادى فى كل مدن اوروبا. لا فكاك للمهاجرين لأبنائهم من التأثر بأخطاء وجرائم السياسة الخارجية الأوروبية والأمريكية حول العالم.. الدلائل تشير إلى أن مدبر عمليه التفجير هو شاب ولد فى بريطانيا وقضى حياته فيها طفلا وشابا. ولكنه كان ناتجاً لأسرة تختلف عن غيرها من الأسر.. فالفتى ولد لأسرة ليبية آمنت بالإسلام السياسى منهجاً وانخرطت فيما أطلق عليه الجهاد ضد القذافي. ذلك الجهاد الذى ضم الليبيين العائدين من أفغانستان. وهكذا فلقد احتضنت بريطانيا الأسرة الليبية المناهضة للحكم فى ليبيا. وتعامت بريطانيا فى أحسن التقديرات عن نشاط المسلحين المسلمين ضد القذافى الذين تحولوا لاحقا إلى مرتزقة يقدمون (جهادهم) لمن يحتاجه فى أى مكان. فحتى عام 2013 كان الذهاب والإياب للتدريب فى تركيا ثم القتال فى سوريا مفتوحاً بلا مساءلة. الحقيقة أن الساسة والمؤسسات الغربية بسياساتها المشرقية مسئولة عما وصلت إليه الأمور بقرارات غض الطرف عن منظمات الإسلام السياسى وأجنحتها المسلحة. و كما ولد الشاب الليبى فى بريطانيا فلقد ولد بها أيضا مفكر وكاتب وإنسان آخر وهو الدكتور شريف حتاته الذى رحل من ايام بعد أن وهب جزءاً عظيماً من حياته لفكر يتناقض تماما مع اصحاب فكر الاخوان المسلمين. فشريف حتاتة قضى ما يقارب من النصف قرن من حياته مصارعا من أجل قضايا حرية المرأة ومساواة النساء. وربما يكون الدكتور شريف حتاتة ورفيقة نضاله الدكتورة نوال السعداوى هما بحق من وضعا (قضية المرأة) على جدول أعمال المجتمع المصري. فلقد كان الرجل مثقفا عظيما وعلى اطلاع عميق بالتيارات الفكرية فى عالم الشمال. وربما يعود الفضل إليهما فى نقل قضية المرأة من مجرد الظهور البروتوكولى فى المجتمع الذى تبنته (هوانم) المجتمع المصرى لآفاق أوسع. فصارت نوال السعداوى بشجاعتها وايجابيتها الصاخبة المتحدية بؤرة لكراهية التيارات السلفية والرجعية فى البلاد؛ فلاقت العنت والاضطهاد كنصر حامد أبو زيد وفرج فوده. كان شريف حتاتة دينامو المعركة منكرا لذاته وخالقاً لجسور واسعة وعريضة مع عالم الشمال، بترجمة أعمال نوال السعداوى فصارت نوال أشهر امرأة مصرية فى العالم. كان لملك مصر السابق فاروق مقولة مشهورة أنه (لن يبقَ فى العالم أى ملوك إلا فى أوراق الكوتشينة الأربع وملك انجلترا). كان شريف حتاتة أحد الذين حققوا هذه المقولة؛ فهناك أمور بالطبع لا تهبط من السماء.. كأن يكون يوم العمل ثمانى ساعات أو يكون هناك (حد أدنى للأجور) أو تكون مصر (جمهورية) (دون قواعد أجنبية). فتلك الأمور أمور عبد طريقها جيلٌ دفع ثمناً عظيماً، وجعل مصر على ما هى عليه اليوم فى اختلافها عن كل ما حولها. فلقد كان شريف حتاتة عضواً فى (اللجنة الوطنية للطلبة والعمال )عام 1946 وكانت تلك طلائع من المصريين قدر لها النصر، فكان إعلان الجمهورية وفتح أبواب الحراك الاجتماعى الكبير مع 1952.. كان مسار شريف حتاتة معقداً متعرجاً فلقد كان ميلاده فى الجزر البريطانية، فالأم انجليزية والأب مصري. درس الطب فتفوق ولكنه أطل على عالم السياسة والشيوعية فإذا به ينخرط مناضلاً فى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى (حدتو). حصل شريف كرفاقه على شرف الدفاع عن مصر والناس. ففتحت مصر أبوابها وكشفت سرها للفتى ذى الأصول المتميزة الذى لم يكن يجيد العربية حينئذ. العقاب الصارم هو مصير من يتخذون السياسة بالجد اللازم، فلقد كانت مصر تخوض معركتها الأخيرة مع الملكية وهكذا سجن الرفيق (عزيز) فهرب هو ومحمد الجندي. نجح المطاردان اللذان احتلت صورتهما الصفحة الأولى من الصحف تحت عنوان (هروب اثنين من زعماء الحمر) فى الوصول إلى فرنسا مختفيان فى قاع سفينة راحلة من بورسعيد إلى مرسيليا. وفى فرنسا كانت السجون للرجل الذى بلا أوراق والمشارك فى السياسة والتظاهرات تأييدا لثورة الجزائر فى عاصمة النور. عرف القوادين والقتلة فى سجون فرنسا ثم عاد إلى مصر ليقضى عشر سنوات متتابعة فى سجن جناح والمحاريق، ألف كيلو جنوبالقاهرة. إنه «شريف حتاتة» صاحب (النوافذ المفتوحة) العمل الفذ النادر فى اللغة العربية. عمل هو ترياق التغلب على الصغائر والصغار. غيَّر شريف حتاتة عنوانه، فهو ورفاقه الرواد باقون أبداً لا يموتون فى ضمير مصر المناضلة ضد الاستعمار والاستغلال والتخلف. لمزيد من مقالات د. حازم الرفاعي;