لابد أن نبدأ هذا المقال بشكر الأستاذ حلمى النمنم وزير الثقافة، والدكتور أحمد الشوكى رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية، والدكتور محمود الضبع على الجهد الذى بذلوه حتى خرج لنا المجلد الأول من (تصوير) جريدة «السفور» التى يصفها أصحابها بأنها «جريدة اجتماعية نقدية أدبية تصدر مرة فى الأسبوع». ويضم المجلد الأول الأعداد المنشورة من 21 مايو إلى 31 ديسمبر 1915م، وقد سبق أن أشرت إلى هذا الإصدار فى مقالى عن التسرع وعدم الأمانة التى اتسم بها البعض فى الإشارة إلى اكتشاف رواية لطه حسين بعنوان «خطبة الشيخ»، وسوف نعود إليها فى مقالات قادمة. أما الآن فيعنينى التركيز على هذا المجلد وما صادفته فيه من مفاجآت سارة هى بمثابة اكتشافات لى شخصيا، مع أنى من المتخصصين فى طه حسين وجامعته على السواء. وأولى هذه المفاجآت أننى عرفت أن المجلد الأول قد صدر بعد عودة طه حسين المؤقتة من جامعة مونبلييه فى فرنسا التى قضى فيها ما يقرب من عام إلى أن قامت الحرب العالمية سنة 1914، وعانت الجامعة الأهلية من نقص حاد فى التمويل، فاضطرت إلى إعادة عدد من طلابها الذين بعثت بهم إلى فرنسا ليتلقوا العلم فيها، فعاد طه حسين مع صديقه أحمد ضيف الذى كان يدرس مثله فى فرنسا التى سبقه إلى السفر إليها. وبقى طه حسين وأحمد ضيف شهورا معدودة، إلى أن تدبر الأمر السلطان حسين كامل الذى تولى حكم البلاد، بعد أن عزلت إنجلتراالمحتلة لمصر فى ذلك الوقت السلطان عباس حلمى الثانى عن الحكم، مستغلة سفره إلى تركيا، وأجلست السلطان حسين كامل على كرسى حكم مصر بديلا عنه. ويمكن أن نقول إن العدد الأول من «السفور» الذى صدر فى يوم الجمعة السابع من رجب سنة 1333 للهجرة، الموافق الحادى والعشرين من مايو 1915م، كان بمثابة مفاجأة مبهجة للطليعة الثقافية المصرية، حيث إنه جاء بعد أن وصلت «الجريدة» إلى مرحلة الاحتضار، بعد أن تخلى عنها المساهمون الماليون فى إصدارها، وأصبحت الساحة الثقافية شبه خالية بعد تعثر أحوال «الجريدة»، ولذلك أصبح الترحيب ب «السفور» ترحيبا ظاهرا، خصوصا أنها ضمت الشباب الثائر من كُتاب «الجريدة»، وأهمهم: على عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وعبد الحميد حمدى وطه حسين الذين عرفوا بالكتابة فى «الجريدة»، والإسهام فيها برعاية أستاذهم أحمد لطفى السيد رئيس التحرير الذى كان يرعاهم، ويوجه خطاهم الثقافية فى اتجاهاتها المختلفة. والحق أن الدور الثقافى لأحمد لطفى السيد لا يزال يحتاج إلى إلقاء الضوء عليه للكشف عن إنجازاته وإسهاماته العديدة فى التاريخ الثقافى للحياة المصرية والعربية. ولحسن الحظ عندما صدر العدد الأول من «السفور»، لم يكن الدكتور طه حسين موجودا فى القاهرة، لأنه قد عاد إليها بعد ذلك، حسب ما نشرته «الجريدة» فى عدد يوم الجمعة الموافق الثامن من أكتوبر 1915، بعنوان «أوبة الدكتور طه حسين»، وذلك فى مقال افتتاحى يتصدر الصفحة الأولى، وقد جاء فيه: «لما أوفدت الجامعة المصرية الدكتور طه حسين إلى فرنسا، سررنا بتلك الرحلة المباركة، علما بأن من ورائها خيرا كبيرا لنهضتنا الفكرية الحديثة التى تضع كثيرا من رجائها فى عالمنا الأديب...سافر الدكتور طه حسين إلى أوربا والحرب يومئذ فى ميعتها الأولى، غير مبال بما بين يديه من المصاعب، وعكف على الاستفادة من علم القوم وعشرتهم. وقد كانت غيبة الأستاذ وحشة لنا، نحن أصدقاءه، تفيض بالشكوى منها مجالسنا العاطلة من أنسه الممتع، وتشعر بألمها قلوبنا الظمأى إلى صداقته الخالصة وعطفه الكريم. ثم كانت غيبته وحشة فى عالم الأدب وفى عالم العلم، إذ حرم الأدباء نغمه الشجى، وحرم العلم تمحيصه ونقده. كنا على شوقنا لصديقنا الدكتور وألمنا لفراقه نريد أن يبقى فى فرنسا حتى يتم ما بدأه من الدرس. غير أن الأقدار لا تصرف الأمور جزافا، فقد علمت أن عاما واحدا يقيمه الأستاذ فى أوربا قد لا يمكنه من الحصول على شهادة من الشهادات الدراسية، ولكنه يكفى لتفتيق الأكمام عن عبقريته. عاد الدكتور طه حسين فى من عادوا من مبعوثى الجامعة ليقفوا إلى جانب سريرها المختلج بالنفس الأخير، عاد الدكتور طه حسين غير حائز للشهادة التى كان يتأهب لها، ولكنه حائز لأكمل حظ من العلم والحكمة، حائز لخير ما رجونا أن يكسبه من رحلته إلى تلك البلاد الحية فى سلمها وحربها، المملوءة بالأمل فى سرائها وضرائها. ولئن كانت عيوننا ملأى من دمع الأسى على الجامعة المحتضرة، فإنها تمتلئ اليوم أيضا بدمعة السرور لأوبة الدكتور طه حسين ميراث الجامعة المصرية العزيز وأمل النيل والأهرام». والافتتاحية بتوقيع حرف (م)، وأغلب الظن أنه توقيع محمد حسين هيكل الصديق الحميم لطه حسين، والذى كانت علاقته به وثيقة إلى أبعد حد، وهو استنتاج يدل عليه أنه ودعه حين انحلت أزمة الجامعة وعاد طه حسين إلى فرنسا، بمثل ما استقبله به فى عودته القسرية، بسبب المشكلات المالية التى كانت تعانى منها الجامعة الأهلية- حتى ذلك الوقت- والتى أشارت إليها افتتاحية هيكل إشارة بلاغية لا تخلو من المبالغة، حين وصف الجامعة بأنها تعانى سكرات الموت «فى سريرها المختلج بالنفس الأخير». والافتتاحية على أى حال تكشف عن مشاعر المودة البالغة والحب الخالص الذى كان يربط بين طه حسين ومجموعة «السفور» التى كانت تعد نفسها الطليعة المثقفة والمحاربة من أجل مستقبل أفضل لمصر، كما كانت ترى نفسها «جماعة المحدثين»– بعبارة طه حسين- التى كانت على استعداد لمقاومة التقاليد القديمة فى الحياة الثقافية المصرية بعنف الشباب وحماسه فى آن. وتمضى أعداد «السفور» بمزيد من المفاجآت، فتنشر فى العدد اللاحق(الموافق 15 أكتوبر سنة 1915) أن مجلس إدارة الجامعة يبحث عودة المبعوثين، وأنه يتدبر الوسائل لتدبير الدعم المالى لذلك، ثم تأتى الأعداد اللاحقة بمجموعة من مقالات طه حسين أرى فيها كشفا حقيقيا، وليس تسرعا بإعلان كشف وهمى، أو تعبيرا عن عدم أمانة. وأعنى عددا من مقالات طه حسين المجهولة التى هى أقرب إلى السرد الأدبى الذى يصل ما كتب فى ذلك الزمن القديم بما كتبه فى «الأيام» بعد ذلك. والمقال الأول بعنوان: «بعد الأوبة» يفتتحها على النحو التالى: الحمد لله على أننى قد صرت من دهرى إلى شر حال مشتت النفس بعيد الهوى فى عثرة من زمنى ما تقال جهدت فى الخير لنفسى فما أدركت منه غير طيف الخيال منى وآمال تقسمننى ثم انجلى زخرفها عن محال نم أيها الليل الساهر، واهدأ أيها الخاطر القلق، وتعز أيها الفؤاد المحزون، فما خير لوعة لا تجدى معا اللجاج فى وجد لا يفيد. أقال الله عثار الجامعة لقد اعترضت سربا آمنا فروعته، وقلبا وادعا فأزعجته، وعيشا صافيا فكدرته، ولقد استقبلت بى أمرا لم تبلغ بى غايته فوقفتنى بين الحمد والذم، وبين الرضى والسخط، وبين الرجاء والقنوط. والذنب للأيام لو (م) لا، شؤمها لم تنب شيمة ولو استقامت كانت الأ حوال فيها مستقيمة تريدوننى على أن أكتب، أيها الأصدقاء، ولقد علمتم ما لى بالكتابة من طوق ولا إلى الإجادة من سبيل. وماذا تريدون من رجل لم يكد يأنس إلى حياة النور والهدى حتى ردته الأقدار إلى حيث الظلمة الداجية والضلال المبين. وآها لك من عيش حسن أوله وساء آخره ومن حلم أكد أتذوق فيه حلاوة الأمل ولذة الرجاء حتى نغصتها على بشاعة الألم ومرارة اليأس. ويا لك من ليل تقاصر طوله وما كان ليلى قبل ذلك يقصر أجل، أيها الأصدقاء، لقد علمتم أن تلكم حياة نور وهدى، وأن هذه الحياة ظلمة وضلال، وما أحسب إلا أنكم قد فعلتم ما فعلت فودعتم ذكاءكم وقلوبكم يوم ودعتم تلكم البلاد. وماذا عسى أن نصنع بذكائنا فى بلد قانع كمصر قد رضى أهله بالقليل من كل شىء، فحسبهم من العلم والأدب ومن الفلسفة والحكمة ألفاظ يلوكونها وكلمات يعلكونها وجمل يرددونها بين الشفاه واللها، من غير أن تحصل معنى جديدا أو تدل على رأى طريف. زهدوا فى البحث والتفكير وقنعوا بالنقل والتقليد لأنهم لم يشعروا بنفوسهم بعد فليس يعنيهم أن يكون لهم فى تراث العقل الإنسانى حظ أو نصيب. وماذا عسى أن نصنع بقلوبنا فى بلد قانع كمصر قد رضى أهله بالقليل من كل شىء فحسبهم من الحياة الحس والحركة، ومن اللذات ما يتملق مشاعرهم الظاهرة، وقد وضع الله عواطفهم فى أيديهم وأرجلهم وعلى أطراف ألسنتهم فلا يعرفون من الحب إلا أغلظه وأجفاه، ولا يألفون من الود إلا ما أعان على حاجة أو أدى إلى منفعة أو انتهى بهم إلى إدراك طلبة وتحقيق رجاء. شهد الله ما غلوت ولا أسرفت ولا بلغت حق ما أريد، ولقد أعلم أننى إنما أكتب هذه السطور لرجلين؛ أحدهما ذاق لذة الحياة الغربية، فهو مؤمن بما أقول مصدق له، والآخر لم يبل منها شيئا، فهو يتهمنى بالغلو ويصفنى بالإغراق. فأما الأول فما أملك له إلا يد إخاء وكلمة عزاء، وأما الآخر فما أرجو له إلا الهداية والعافية وصفاء العيش، وأن يجنبه الله ما بلوناه فلم نحمد منه حلاوة الجنى حتى ترك لنا غصة لن تفارقنا إلا مع آخر نفس من أنفاس الحياة. يا عجبا كل العجب يعود الناس إلى بلادهم بعد الغربة فرحين مبتهجين، وأنا أقسم بما فى تلك البلاد من ذكاء القلوب ورجاحة الأحلام ومن صفاء الطباع وسلامة الأذواق ومن رقة العواطف ورقى الأخلاق ومن جمال الخلال واعتدال الأمزجة، لقد عدت إلى مصر آسفا محزونا، ولقد أستحى أن أقول الحق فأعلن أنى استقبلتها باكيا». هذا المقال هو أول مقال يكتبه طه حسين وينشره بعد عودته القسرية مما حسبه جنته العلمية التى وجدها فى مدينة مونبلييه التى فتحت له جامعتها العريقة أبوابا جديدة من الثقافة والمعرفة والعادات المتحضرة التى تربط بين الأصدقاء. كما تربط بين الطلاب– على اختلاف جنسياتهم- وبين معارف العالم، مبذولة لكل من يريد أن ينهل منها، أو يضيف إليها، أو حتى يختلف معها أو يخرج عليها فى حرية كاملة وسماحة تامة دون تعصب أو تعنت، فأبواب الابتكار مفتوحة المصاريع، وآفاق الاجتهاد مفتوحة بلا حدود أو عوائق. ولعلنا نلحظ بقايا نزوع أزهرى فى صياغة الأسلوب. وهو أمر طبيعى، فقد كان طه حسين لا يزال قريب عهد بالبلاغة الأزهرية، حريصا على اصطناع أسلوب يشبه أسلوب الجاحظ. ولكن من الواضح أن الجامعة المصرية وأصدقاءه المطربشين قد علموه بلاغة جديدة، تستبدل بالسجع الكلام المرسل، والاستغراق فى منثور الكلام وعفويته بدل الانغلاق على التقنية اللازمة أو غير اللازمة. ورغم أن طه حسين حاول فى العدد اللاحق أن يكتب فى الأدب وفى الشعر على وجه التحديد، تحت عنوان «حديث الخميس» عن حياة الخنساء فإنه سرعان ما توقف عن ذلك فى العدد نفسه، وكتب بعد صفحة واحدة مقالا آخر من أجمل وأعذب وأصدق وأشجى ما قرأت له، وهو مقال بعنوان «يوم 14 نوفمبر» ولمن لا يعرف فإن يوم 14 نوفمبر هو يوم ميلاد طه حسين فى عزبة الكيلو بمحافظة المنيا. وكان طه حسين فى السادسة والعشرين من عمره يوم أن كتب هذا المقال متذكرا، أو متحدثا عن ميلاده السادس والعشرين. وطرافة المقال تنبع من سرديته العذبة وشجويته الشاعرية التى تتحدث عن إحساس مثقف مصرى عاد من فرنسا مرغما، بعد أن ظل فى مونبلييه عاما، تعلم فيها ما لم يكن يعلمه فى مصر، وهو أن الناس هناك يحتفلون بما يسمى عيد ميلادهم، فكل يعرف تاريخ ميلاده، وكلٌّ يحتفى بتاريخ ميلاده، ويصنع له أصدقاؤه حفلا خاصا، احتفالا به بمناسبة عيد ميلاده. وكان ما يثير شجن طه حسين فى هذا المقال أن تصله برقية من صديق فى مونبلييه يذكره بعيد ميلاده فى يوم 14 نوفمبر، ويهنئه به. وهو أمر لم يكن معروفا فى مصر، فلم يكن المصريون قد عرفوا بعد –على الأقل فى بيئة طه حسين- معنى أو ضرورة احتفاء الأصدقاء بعيد ميلاد أحدهم أو الأسر بعيد ميلاد واحد من أفرادها. هكذا يكتب طه حسين مقالا بعنوان «يوم 14 نوفمبر»، والمقال مع المقال السابق يدخل فى باب السيرة الذاتية، وهو الباب الذى كنا نعرف أن طه حسين لم يقتحمه إلا بعد أزمة كتاب «فى الشعر الجاهلى» سنة 1926، ويطلق عليه اسم «الأيام» خالقا الأثر الأدبى العظيم الذى سرعان ما نتذكره، عندما نتذكر اسم طه حسين، لكنه هذه المرة، وقبل أن يعود إلى فرنسا بأشهر، يكتب وهو بين الرجاء واليأس، عن عيد ميلاده الذى لم يحتف به أحد من أصدقائه أو أهله فى مصر، وإنما يذكره واحد من أصدقائه الفرنسيين الذين عرفهم فى مونبلييه، فيقول فى لغة سردية لافتة للانتباه: «لأمر ما نقضت عادتى فرحت إلى البيت ولما تنتصف الساعة التاسعة من مساء السبت، إذن فسأخلو إلى نفسى وسأظفر بهذه اللذة التى لم أحرص على شىء قط حرصى عليها، ولم أكلف بشىء قط كلفى بها، لذة الوحدة، أستحضر فيها ما حفظ الماضى لى من ذكرى، وما ادخر المستقبل لى من رجاء. كذلك كنت ألهو بساعات الوحدة أيام كنت فارغ القلب، ناعم البال، لا أحمل للحياة ثقلا، ولا أعنى من همها بقليل أو كثير. أيام لا أكاد أعرف من بلاد الله إلا مصر، وأكاد لا أعرف من مصر إلا القاهرة، وأكاد لا آلف من القاهرة إلا أزهرها وجامعتها وإلا رياضها وحدائقها. وأيام أعتقد أنى استوفيت هذا الحظ الضئيل الذى كانت تقدمه إلىّ مصر من لذة العقل والجسم فقد استوفيت كل شىء، وقد ظفرت من السعادة بما ليس لى فوقه مطمع ولا أمل. أما الآن فقد علم صفو العيش وطيب الحياة أنهما حرام. وقد علمت الوحدة اللذيذة أن الصلة بينى وبينها منقطع، وأن أحداث الزمان قد ألقت علىّ دونها حجابا مستورا. لقد عشت ستا وعشرين سنة انسيت منها اليوم خمسا وعشرين سنة محيت من ذاكرتى جملة، ويخيل إلىّ أنها خليقة بالنسيان لأنها لم تشتمل إلا على غفلة عن معنى الحياة ولجاج فيما لا يفيد. ذهبت هذه السنون من ذاكرتى فنسيت معها ماضىّ كله لأنى لا أعرف فيه ما يستحق أن يحفظ، وذهبت معها لذة التفكير فى المستقبل لأنى لا أراه إلا مظلما ولا أنظر إليه إلا من أسوأ جهاته. ليس لى ماض أنعم بذكره ولا مستقبل ألهو بالتفكير فيه، ولكن لى حاضر يهيج فى قلبى ألوانا من الحزن ويغرى بنفسى فنونا من الأسى، ذلك الحاضر هو هذه الساعة التى تعرض لى فيها هذه الخواطر. أذكر فى هذه الساعة ثلاثة أيام: يوم ولدت، ويوم سافرت إلى أوربا، وهذا اليوم الذى ستتكشف عنه هذه الليلة التى تُجننه، ويوم 14نوفمبر. فى هذا اليوم ولدت منذ ست وعشرين سنة، وفى هذا اليوم سافرت إلى أوربا منذ سنة واحدة، وأنا الليلة فى القاهرة أرجو ألا يصبح علىّ الغد إلا وقد رحلت إلى حيث لا يرجع ظاعن ولا يرجى لمرتحل إياب. لا تصبح أيها الليل عن هذا الغد فأقسم أنى له لكاره وأنى به لضيق الذراع، لقد أظلنى نيفا وعشرين مرة فما أذكر أنى نعمت به أو سعدت فيه، وما أذكر أنى أديت فى هذا العمر الطويل بعض ما أنا مدين به لهذه الحياة التى دخلتها كارها، كما كان يقول أبو العلاء المعرى. على أنى– ولا حياء فى الحق- لم أكن أعرف أنى ولدت فى هذا اليوم حتى ألزمتنى ظروف السفر إلى أوربا أن أصطحب معى تذكرة الميلاد، وأن أنظر فيها، ولو أنى عرفت ذلك قبل هذا العهد لما كنت حريا أن أفكر فى هذا اليوم أو أحفل به، فقد صاغ الله أمزجتنا فى هذا البلد على نحو من الإهمال يوشك أن يكون فطريا نأتى معه الكبائر ونغفل معه عن الواجبات من غير أن نشعر بحرج فيما أتينا أو إثم فى ما فرطنا فيه. تلك الأشهر التى أقمتها فى فرنسا هى التى جعلت ليوم ميلادى فى نفسى قيمة ما، فقد رأيت قوما ليس فيهم من لا يتخذ هذا اليوم لنفسه عيدا، يتقبل فيه أسرته وأصدقاؤه التهانى والهدايا، ويذكر به ماضى حياته وما أدى فيه من واجب وما أهمل من حق، فينشئ ذلك فى نفسه نوعا من اللذة لا يشعر به الشرقى ولا يجد له فى نفسه حسة. قالت قارئتى فى الصباح ذات يوم: أنا معتذرة من الحضور هذا المساء لأن هذا اليوم عيد ميلادى فسأضطر إلى استقبال نفر من أصدقائى اعتادوا أن يشربوا معى الشاى فى هذا اليوم، وعلى هذه الذكرى متى عيد ميلادك؟ ترددت قليلا ثم قلت: يوم 14 نوفمبر. قالت: وكم بلغت من السن؟ أجبت: سأتم السادسة والعشرين فى هذا العام.. أو تحتفلون بهذا اليوم عندكم؟ أجبت على استحياء– لا- إن فى جد الحياة وأعمالها النافعة ما يشغلنا عن هذا النوع من الفكاهة. قالت مستضحكة: هذا غريب. ثم انصرفت بعد أن ودعت، وبعد أن قبلت منى تهنئتها بهذا العيد. لم أكن المصرى الفذ الذى وقفه هذا السؤال موقف الحرج، بل كنت أحسن حالا من غيرى لأن المصادفة قضت أن أحفظ تذكرة ميلادى، وأن أذكر اليوم الذى ولدت فيه حين سئلت عنه، لكن صديقا لى لم تسعده المصادفة بما أسعدتنى به، فضاعت تذكرة ميلاده، ولم يتكلف استخراج غيرها، وذاكرته لا تحفظ يوم ميلاده بعد. فلما سئل هذا السؤال اختار يوما ما من أيام السنة وفرضه لميلاده تاريخا. لم يجب الله دعائى، فقد أشرقت على شمس يوم الأحد وأن العافية لموفورة على، وأن أجلى فى الحياة لممدود، ولو قد أشرقت على هذه الشمس فى غير هذا البلد لكنت حريا أن ألقى من أنواع البشر وألوان الابتهاج ما يسر هذه النفس الحزينة ويسلى عن هذا القلب الكئيب، أجل ولأشرقت منى على شخص ما زال الأمل يدفعه إلى العمل ويبعث فيه النشاط والابتسام لاستقبال الحياة، ولكنها قد أشرقت على فى مصر فأقسم ما لقيت طول اليوم شيئا يسر، ولقد لقيت كثيرا مما يسوء. حيا الله وفاء فرنسا وبرها فى هذين الشخصين يذكرننى من وراء البحر، فيتعهدنى كلاهما من وده الصادق وحبه الصحيح بما يبعث فى نفسى الحياة وفى قلبى الاطمئنان والرضى، فلولا أنى قرأت كتابيهما آخر هذا اليوم لأشفقت على نفسى أن أقضى صريع الأسى وضحية هذا التذكار الأليم». هذا هو المقال الثانى الذى يدخل فى باب السيرة الذاتية، ويبقى بعد ذلك المقال قبل الأخير، وهو بعنوان «24 نوفمبر». ويتذكر طه حسين فى هذا المقال أنه اليوم الذى وصل فيه إلى مونبلييه ويتحدث عن ذكريات فيه، مقارنا بين سعادته الغامرة بالعلوم الجديدة والحياة الجديدة التى بدأ يستغرق فيها هناك وبعودته القسرية إلى مصر وما أصبح يعانيه من عذاب وعدم تآلف مع الحياة وسأم من كل شىء. وفى نهاية المقال يُحيى شهر نوفمبر: «فهو مجتمع ما بلوت من خير وشر، وملتقى ما أحسست من لذة وألم، وهو الذى تذكرنى أيامه أنى قد مررت بهذه الدنيا فأحسست فيها معنى الحياة». وأيضا تأتى مناظرة بينه وصديقه هيكل حول الحرب والحضارة، يقف كل منهما موقف الضد فى مناظرة لم يكن الهدف منها إلا تمرين القلم وتدريب القدرة على مدح الشىء وذمه، كما كان يفعل المعتزلة قديما. وكان طه حسين يوقع باسم مستعار على ما يكتب هو اسم «تاسيت» المؤرخ الرومانى (بابليوس كورنليوس تاسيتوس). وأخيرا نأتى إلى عدد يوم الجمعة الموافق الرابع والعشرين من ديسمبر 1915، وهو عدد يحمل أخبارا سعيدة، فقد أفلحت إدارة الجامعة فى تجاوز أزمتها المالية، وقامت بترضية الشيخ محمد المهدى الذى كان قد قدم شكوى ضد المبعوث طه حسين الذى سخر منه ومن طريقة محاضرته سخرية مريرة، فى مقال قاس نشرته «السفور»، وهو الأمر الذى هدد طه حسين بحرمانه من البعثة، ولكن سرعان ما تدخل رعاة طه حسين، فأصلحوا ما بين التلميذ وشيخه، وهو الأمر الذى جعل باب العودة إلى فرنسا مفتوحا لطه حسين الذى حزم حقائبه وأخذ يستعد للسفر. ويعنى ذلك أن طه حسين قد قضى فى مصر ما يقرب من ثلاثة أشهر كاملة لم تكن كلها سوى حزن على مغادرة فرنسا وأملا فى الرجوع إليها، ولهذا يكتب فى «السفور» آخر مقالاته فى سنتها الأولى بعنوان «قبل الرحيل»، موضحا الأسباب التى عادت به من فرنسا والعذاب النفسى الذى لاقاه فى مصر مغتربا فيها وعنها، مختتما مقاله بالقول: «فى سبيل العلم فارقت مصر، وبحكم الضرورة رجعت إليها ولم أتم عملى، وفى سبيل العلم أفارق مصر الآن، ولمصر وأهلها علىّ عهد الله وميثاقه أن أظل لهم مخلصا وبحبهم متصلا، وأن أقف على ما أستطيع من نفعهم [ طوال] حياتى العقلية والقلبية معا. فى هذه الأيام يرحل الناس كثيرا فى أرضهم وعن أوطانهم فى جهات الأرض على اختلافها، ليبذلوا أنفسهم وأرواحهم فى الذود عنها، وفى إعلاء كلمتها وتشريف مكانها بين الأمم، فليجعل الله رحلتنا العلمية طيبة مباركة وليجعل الله لها من الثمرات ما نستطيع أن نمد به أنفسنا جهود المخلصين. قد أبلينا فى خدمة بلادنا أحسن البلاء. أجل، وليوفقنا الله إلى أن تكون حياتنا فى أوربا مثالا صالحا لما يحب المصرى أن يعرف أهل الغرب عنه من ألوان الحياة الصادقة المملوءة بالجد والعمل، وبالاستقامة وحسن السعى فى سبيل ما يسمو إليه. أرجو ذلك وأعد بالجد فيه. وأعود إلى أصدقائى فأجدد لهم ما هم حقيقون به من الشكر والثناء، وأشهد الله على أن لطهارة قلوبهم وكرم نفوسهم فى قلبى أثرا لا يمحوه مر الأيام، ولا يغيره اختلاف الحوادث. وإنما مثلى ومثلهم ما قال أبو العلاء: وإذا أضاعتنى الخطوب فلن أرى لوداد إخوان الصفا مضيعا خاللت توديع الأصادق للنوى فمتى أودع خلى التوديعا وكما استقبل محمد حسين هيكل صديقه طه حسين بمقال «أوبة طه حسين»، وهى كلمة تنطق بالحب الخالص والمودة الصافية التى جمعت بين الصديقين اللذين حافظا على علاقة المحبة الخالصة التى جمعت بينهما، طوال الحياة إلى أن توفى محمد حسين هيكل فى الثامن من ديسمبر 1956، وتوفى بعده طه حسين فى الثامن والعشرين من أكتوبر 1973. رحم الله الجميع، فقد تعلمنا منهم ومن أبناء جيلهم قيمة الكلمة ومعنى التروى فى طلب العلم والأمانة فى عرض نتائج البحث والتواضع فى الحديث عن النفس والآخرين. ويبقى بعد ذلك أن نوجه الشكر خالصا لمن أتاحوا لنا هذا المجلد، ابتداء من الوزير حلمى النمنم وانتهاء بالدكتور محمود الضبع والدكتور أحمد الشوكى، ملحين عليهم فى أن نقرأ بقية مجلدات «السفور» فى أقرب وقت. فمن المؤكد أنها تتضمن من المفاجآت أضعاف ما أشرت إليه وما يعد كشفا حقيقيا لنتاج لا نعرفه من إنتاج طه حسين الأدبى الذى يدخل فى باب السيرة الذاتية التى تسبق كتابة «الأيام» بأكثر من عقدين على الأقل. وغير ذلك كثير، فما أكثر ما قلت وكتبت أن تفاصيل التاريخ الأدبى الحية موجودة فى الدوريات التى تشبه «السفور» فى الثراء والغنى وتنوع الملامح الضائعة من الذاكرة الجمعية.