اليوم 14 نوفمبر... نحتفل بميلاد طه حسين، وإن كنا فى احتفالنا لا يهمنا عدد السنوات التى تفصلنا عن عام مولده فى نهايات القرن التاسع عشر وتحديدا عام 1889. لا يهمنا أيضا المسافة التى قطعها من عزبة الكيلو تلك القرية الهادئة القريبة من مغاغة بمحافظة المنيا إلى القاهرةوباريس. فلكل من أهل الدنيا مسافة يقطعها و أعوام يعيشها،أما ما يسألنا الله تعالى عنه، وما سنسأل عنه حتى أنفسنا فى نهاية العمرفسيكون عن القيمة الحقيقية لهذه الرحلة القصيرة التى أمضيناها فى هذه الدنيا. ولهذا فجدير بنا أن نتذكر هذا الرجل وقد كان ممن قدموا وأضافوا للفكر والثقافة العربية، وسواء اتفقت معه أو اختلفت، فكيف لرجل فقد بصره أن يكون من أول الحاصلين على درجة الدكتوراة فى الجامعة المصرية، وكيف يواصل دراساته ليتحدى حائل اللغة والبصر والغربة فى باريس ليعود وقد اقتبس من تنويرها. بالتأكيد كان طه حسين من أولى العزم العارف بنفس مفهوم التحضر الذى عرفه الشيخ حسن العطار والشيخ رفاعة الطهطاوى والمتنورون أصحاب الأفكار الكبيرة . ومن يتعرض اليوم لهذا الحصاد الحقيقى الذى قدمه عميد اللغة العربية سوف يدهش لوفرته ، وسوف يدهش أيضا لما آلت له ثقافتنا العربية التى تحدث عن مستقبلها وعن التعليم الذى حارب من أجله. ولهذا نتذكره اليوم، وربما غدا إذا ما أراد أهل مصر أن ينهضوا ويسترجعوا سير اصحاب العلامات ومنهم هذا الرجل المعمم المطربش سارق النار الذى عثر الأستاذ نبيل فرج الذى عمل مديرا لمتحف طه حسين رامتان على مقال فريد كتبه فى عيد ميلاده. ويحمل وقفة طريفة مع النفس فيما أشبه بالخواطر. ولنقرأ هذا المقال .
طه حسين يكتب عن عيد ميلاده
نبيل فرج
حين سافر طه حسين إلى فرنسا سنة 1914، مبعوثا من الجامعة المصرية القديمة، لم يكن يعلم أن الأوروبيين فى المدينةالغربية يحتفلون بأعياد ميلادهم. ذلك أن هذا التقليد الجميل لم يعرف فى بلاده، خاصة فى البيئات الفقيرة والطبقات المحافظة التى كان يرثى لها. أما تاريخ ميلاده فى 14 نوفمبر 1889، الذى لا يرد له ذكر إلا فى الأوراق الرسمية، ولا يعلق بذاكرته إلا لتصريف شئونه الخاصة، فكان يمضى كسائر أيام السنة المثقلة بالوحدة والزهد والهموم التى يتنقل فيها بين الاستغراق فى الماضي، بما حفل به من خطوب وندوب، وبين المستقبل المليء بأحلام النهضة والجمال، الذى يجد فيه نفسه. وفى صباح أحد الأيام فوجئ طه حسين بقارئته التى غدت زوجته، تعتذر عن عدم العودة إليه فى المساء لاستكمال ما تقرأّ له، لأن اليوم عيد ميلادها الذى تحتفل به كل سنة مع أصحابها. عندئذ تنبه طه حسين إلى هذه العادة الاجتماعية السائدة فى أوروبا، التى لم يألفها فى الفكر والشعور. وبعد أن عاد فى اجازته إلى وطنه، كتب هذا المقال المجهول عن يوم مولده، المقيد فى شهادة الميلاد أو تذكرة الميلاد المستخدمة فى زمنه، ونشره فى جريدة «السفور» فى القاهرة، فى 19 نوفمبر، بعد أيام قليلة من تاريخ هذا الميلاد. ولاشك أن ما دفع طه حسين إلى كتابة هذا المقال الفريد، الذى لم يجمع فى كتبه، كان ملاءمة مضمونة لطبيعته المحبة للتواصل، ولاتفاقه أيضا مع نزوعاته، ومع دعوته التى ارتبط اسمه بها، وهى الأخذ بأساليب الحياة الحديثة، العقلية والمادية والمعنوية، التى أتيح له أن يدركها تحت سماء باريس، ولم يكف فى حياته عن مقارنة ما تزدهر به من ثقافة وحرية، بما فى مصر من تضييق، ولو كان فى أبسط الأشكال مثل احتفال الأفراد بأعياد ميلادهم. وأود أن أشير فى هذا التقديم إلى أن نسخ هذا المقال من مصدره، بعد أكثر من قرن من نشره، لم يكن يسيرا، لأن ورق الجريدة القديمة فى مقتنيات دار الكتب كان قد اصفر وتهرأ، يتقطع من اللمس والتقليب، وبهتت حروفه أو انطمست، بما فيه العنوان. وهذا نص المقال: يوم 14 نوفمبر لأمر ما نقضت عادتى فرحت إلى البيت ولما تنتصف الساعة التاسعة من مساء السبت. إذن فسأخلو إلى نفسى وسأظفر بهذه اللذة التى لم أحرص على شيء قط حرصى عليها. ولم أكلف بشيء قط كلفى بها. لذة الوحدة، أستحضر فيها ما حفظ الماضى لى من ذكري، وما ادخر المستقبل لى من رجاء. كذلك كنت الهو بساعات الوحدة أيام كنت فارغ القلب، ناعم البال، لا أحمل للحياة ثقلا، ولا أعنى من همها بقليل أو كثير. أيام أكاد لا أعرف من بلاد الله إلا مصر، وأكاد لا أعرف من مصر إلا القاهرة، وأكاد لا آلف من القاهرة إلا أزهرها وجامعتها، وإلا رياضها وحدائقها، وأيام اعتقد أنى إن استوفيت هذا الحظ الضئيل الذى كانت تقدمه إليّ مصر من لذة العقل والجسم فقط استوفيت كل شيء وقد ظفرت من السعادة بما ليس لى فوقه مطمع ولا أمل. أما الآن فقد علم صفو العيش وطيب الحياة انها عليّ حرام. وقد علمت الوحدة اللذيذة أن الصلة بينى وبينها منقطعة، وأن أحداث الزمان قد ألقت عليّ دونها حجابا مستورا. لقد عشت ستا وعشرين سنة نسيت منها اليوم خمسا وعشرين سنة محيت من ذاكرتى جملة، ويخيل إليّ أنها خليقة بالنسيان لأنها لم تشتمل إلا على غفلة عن معنى الحياة ولجاج فيما لا يفيد. ذهبت هذه السنون من ذاكرتى فنسيت معها ما مضى كله لأنى لا أعرف فيه ما يستحق أن يحفظ، وذهبت معها لذة التفكير فى المستقبل لأنى لا أراه إلا مظلما، ولا أنظر إليه إلا من أسوأ جهاته. ليس لى ماض أنعم بذكره ولا مستقبل ألهو بالتفكير فيه، ولكن لى حاضرا يهيج فى قلبى ألوانا من الحزن ويغرى بنفسى فنونا من الأسي، ذلك الحاضر هو هذه الساعة التى تعرض لى فيها هذه الخواطر. أذكر فى هذه الساعة ثلاثة أيام: يوم ولدت، ويوم سافرت إلى أوروبا، وهذا اليوم الذى ستتكشف عنه هذه الليلة التى تجنني، يوم 14 نوفمبر. فى هذا اليوم ولدت منذ ست وعشرين سنة، وفى هذا اليوم سافرت إلى أوروبا منذ سنة واحدة، وأنا الليلة فى القاهرة أرجو ألا يصبح عليّ الغد إلا وقد رحلت إلى حيث لا يرجع ظاعن ولا يرجى لمرتحل إياب. لا تصبح أيها الليل عن هذا الغد فأقسم انى له لكاره وانى به لضيق الذراع. لقد أظلنى نيفا وعشرين مرة، فما أذكر انى نعمت به أو سعدت فيه، وما أذكر انى أديت فى هذا العمر الطويل بعض ما أنا مدين به لهذه الحياة التى دخلتها كارها، وأقمت فيها كارها، وسأتركها كارها كما كان يقول أبو العلاء. على انى ولا حياء فى الحق لم أكن أعرف أنى ولدت فى هذا اليوم حتى الزمتنى ظروف السفر إلى أوروبا أن أصطحب معى تذكرة الميلاد وأن أنظر فيها، ولو انى عرفت ذلك قبل هذا العهد لما كنت مليئا أن أفكر فى هذا اليوم أو أحفل به، فقد صاغ الله أمزجتنا فى هذا البلد على نحو من الاهمال يوشك أن يكون فطريا نأتى معه الكبائر ونغفل معه عن الواجبات من غير أن نشعر بحرج فيما أتينا أو اثم فيما فرطنا فيه. تلك الأشهر التى أقمتها فى فرنسا هى التى جعلت ليوم ميلادى فى نفسى قيمة ما فقد رأيت قوما ليس فيهم من لا يتخذ هذا اليوم لنفسه عيدا، يتقبل فيه من أسرته وأصدقائه التهانى والهدايا، ويذكر به ماضى حياته وما أدى فيه من واجب وما أهمل من حق، فينشئ ذلك فى نفسه نوعا من اللذة لا يشعر به الشرقى ولا يجد له فى نفسه حسة. قالت قارئتى فى الصباح ذات يوم: أنا معتذرة عن الحضور هذا المساء لأن هذا اليوم عيد ميلادى فسأضطر إلى استقبال نفر من أصدقائى اعتادوا أن يشربوا معى الشاى فى هذا اليوم. وعلى هذه الذكرى متى عيد ميلادك؟ ترددت قليلا ثم قلت يوم 14 نوفمبر قالت وكم بلغت من السن؟ أجبت: سأتم السادسة والعشرين فى هذا العام. أو تحتفلون بهذا اليوم عندكم؟ أجبت على استحياء لا إن فى جد الحياة وأعمالها النافعة ما يشغلنا عن هذا النوع من الفكاهة. قالت مستضحكة: هذا غريب. ثم انصرفت بعد أن ودعت، وبعد أن قبلت منى تهنئتها بهذا العيد. لم أكن المصرى الفذ الذى وقفه هذا السؤال موقف الحرج، بل كنت أحسن حالا من غيرى لأن المصادفة قضت أن أحفظ تذكرة ميلادي، وأن أذكر اليوم الذى ولدت فيه حين سئلت عنه، ولكن صديقا لى لم تسعده المصادفة بما أسعدتنى به، فضاعت تذكرة ميلاده، ولم يتكلف استخراج غيرها، وذاكرته لا تحفظ يوم ميلاده بعد، فلما سئل هذا السؤال اختار يوما من أيام السنة وفرضه لميلاده تاريخا. لم يجب الله دعائى فقد أشرقت على شمس يوم الأحد وإن العافية لموفورة عليّ وإن أجلى فى الحياة لممدود، ولو قد أشرقت عليّ هذه الشمس فى غير هذا البلد لكنت حريا أن ألقى من أنواع البشر وألوان الابتهاج ما يسر هذه النفس الحزينة ويسلى عن هذا القلب الكئيب. أجل ولأشرقت منى على شخص مازال الأمل يدفعه إلى العمل ويبعث فيه النشاط والابتسام لاستقبال الحياة. ولكنها قد أشرقت عليّ فى مصر فأقسم ما لقيت طول اليوم شيئا يسر ولقد لقيت كثيرا مما يسوء. حيا الله وفاء فرنسا وبرها فى هذين الشخصين يذكراننى من وراء البحر، فيتعهدنى كلاهما من وده الصادق وحبه الصحيح بما يبعث فى نفسى الحياة وفى قلبى الاطمئنان والرضي. فلولا انى قرأت كتابيهما آخر هذا اليوم لأشفقت على نفسى أن أقضى صريع الأسى وضحية هذا التذكار الأليم.
مقتطقات من قصيدة حوار ثورى مع طه حسين للشاعر :نزار قبانى
ضوءُ عينَيْكَ أمْ هُمْ نَجمَتانِ؟ كُلُّهمْ لا يَرى .. وأنتَ تَراني اِرمِ نظّارَتَيْكَ كي أتملّى كيف تبكي شواطئُ المرجانِ اِرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنتَ أعمى إنّما نحنُ جوقةُ العميانِ أيّها الفارسُ الذي اقتحمَ الشمسَ وألقى رِداءَهُ الأُرجواني أزْهَرَ البرقُ في أنامِلكَ الخمسِ وطارَتْ للغربِ عُصفورَتانِ إنّكَ النهرُ .. كم سقانا كؤوساً وكَسانا بالوردِ وَ الأقحُوانِ لم يَزَلْ ما كَتَبْتَهُ يُسكِرُ الكونَ ويجري كالشّهدِ تحتَ لساني في كتابِ (الأيّامِ) نوعٌ منَ الرّسمِ وفيهِ التفكيرُ بالألوانِ .. وحدُكَ المُبصرُ الذي كَشَفَ النَّفْسَ وأسْرى في عَتمةِ الوجدانِ أيّها الأزْهَرِيُّ ... يا سارقَ النّارِ ويا كاسراً حدودَ الثواني عُدْ إلينا .. فإنَّ عصرَكَ عصرٌ ذهبيٌّ .. ونحنُ عصرٌ ثاني