كنت كغيري من المثقفين أتابع في الصحف الأخبار المتناثرة عن اعتزام الدولة اقتناء فيلا رامتان بالهرم للدكتور طه حسين، تمهيدا لتحويلها إلي متحف، كما اقتنت من قبل فيلا الشاعر أحمد شوقي علي شاطئ النيل بالجيزة، وحولته إلي متحف. وبعد أن تم اقتناء رامتان في 1990 بمليون ومائة ألف جنيه، انقطعت الأخبار فترة، نقلت فيها ملكية الفيلا من ورثة طه حسين إلي وزارة الثقافة، ووضعت خطة مبدئية لإعداد المتحف. وكان الرأي المطروح، بالاشتراك مع الدكتور محمد حسن الزيات زوج ابنة طه حسين، أن تتحول رامتان إلي مركز ثقافي تعقد فيه الندوات والمهرجانات والمسابقات الأدبية، وتطبع فيه الكتب والدراسات والنشرات عن طه حسين وعصره. ولأن المتاحف لا تتحمل عقد هذه الأنشطة التي تغص بالجمهور العريض، استقر الرأي علي بناء مبني من دورين لهذا الغرض، في الجزء الغربي من حديقة المتحف، ويقتصر نشاط المتحف علي استقبال الزائرين الذين يهمهم في المحل الأول معرفة كيف كان صاحب «الأيام» يعيش في داره، ويؤلف كتبه، ويكتب مقالاته. وتصادف في هذا التاريخ أن التقيت بالدكتور أحمد نوار رئيس المركز القومي للفنون التشكيلية، في إحدي الندوات العامة، وعندما علمت منه أن الوزارة لم تعثر بعد علي مدير للمتحف، أبديت له استعدادي لقبول هذا المنصب. فما كان منه إلا أن دعاني وسط دهشة المحيطين بنا للقائه في مكتبه في صباح اليوم التالي، ومعي الأوراق الخاصة بي المطلوبة لهذا الغرض، وهي أوراق قليلة جدا، لأني كنت منذ سنوات من العاملين في وزارة الثقافة. ولست أريد أن أتحدث عن نفسي بما يتجاوز القول بأني منذ اليوم الأول لي في المتحف كنت – تحت تأثير تقديري البالغ لطه حسين – أكرس كل الجهد لإعداد هذا المتحف والمركز الثقافي بشكل يليق بهذا الاسم الكبير، بحيث يعد نموذجا يصلح للتعميم في مصر كلها الزاخرة بأعلام الفكر والفن والثقافة، الذين يتعين أن يتذكرهم الوطن، ويتعين أن يكون لهم متاحف علي غراره، أو أفضل منه، كلما تيسر ذلك. ويكفي أن أذكر أني في 1993 أقمت في دار الأوبرا احتفالا بالذكري العشرين علي وفاة طه حسين، شارك فيه أكثر من عشرين علما من أعلام الثقافة المصرية، بعضهم من تلاميذ طه حسين الذين تلقوا الدروس الجامعية علي يديه في مدرجات كلية الآداب. ونقلت مكتبة طه حسين الخاصة من دار الكتب القومية إلي المتحف وسط حراسة مشددة، وهو الاستثناء الوحيد في دار الكتب منذ تأسيسها في مطلع القرن العشرين، الذي تخرج فيه مكتبة خاصة من مقتنياتها. وأثناء نقل هذه المكتبة عثرت علي مخطوط لكاتب يوناني يدعي أوجين ميخائيليذس عن طه حسين عنوانه «طه حسين باشا» كتبه باللغة العربية سنة 1951، وجلده ككتاب مطبوع، لا يخطر علي بال أحد أنه مخطوط، وأهداه إلي طه حسين، ولولا أني كنت أحيط إحاطة شبه تامة بالكتب العربية التي صدرت عن طه حسين لوضع هذا المخطوط ضمن كتب المكتبة، لا يعلم أحد عنه شيئا. ولأهمية هذا المخطوط حققته وأعددته للنشر، وكتبت عنه مقالا في الصحف، غير أنه صدر باسم شقيق أحمد نوار الذي تولي الإشراف علي المتحف بعد أن غادرته. وهناك وقائع أخري مماثلة، تتجاهل كل الجهود السابقة، وتنسبها إلي نفسها، مما يحتاج إلي مقالات مستقلة، ليس هذا أوانها، أو الوقت المناسب لإثارتها. ولكن يجب أن أذكر بتواضع جم أن أسرة طه حسين أبدت إعجابها بالحياة التي بدأت تدب في المتحف، وحرص الصحافة المصرية والعربية علي الكتابة عنها. وقال لي أحد أفراد هذه الأسرة إن طه حسين وزوجته لو علما بأن كاتبا مثل العبد لله سيكون مسئولا عن ميراث طه حسين، لقرّا عينا، وارتاحا في قبرهما. وحدث في 1996 أن اتصل بي الدكتور جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة، لمعاونته في إقامة احتفال المجلس بمرور سبعين عاما علي صدور كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» الذي يعد ثورة في مناهج البحث العلمي، تمتحن فيه النصوص بالأدلة الاستقرائية التي تبين ما هو أصيل أو منحول في هذا الشعر، وقمت بما هو مطلوب. ويبدو علي أرجح الظنون أن هذا الموضوع أثار غضب أحمد نوار، ظنا منه أن تخطيته إلي من هو أعلي منه في السلم الوظيفي، فقلب لي ظهر المجن، متجاهلا أن اسمي في الحركة الثقافية هو الذي رشحني للمشاركة في هذا الاحتفال، وليس وظيفتي في المتحف، حتي أكون ملزما بمخاطبته، قبل أن أرد علي الأمين العام. وإزاء هذا التحول لم أجد بدا من إنهاء انتدابي للمتحف وأنا آسف، دون أن أحفل بحساب المكسب والخسارة، وبمعني أدق طلبت بيد ثابتة عدم تجديد هذا الانتداب، قبل شهور معدودة من افتتاح المتحف الذي تُجني فيه ثمار سنوات من العمل. ومع هذا فإني لم أشعر قط بالندم، لأني اعتبرت التمسك بالكرامة يجب أن يكون مقدما علي كل شيء آخر. وهذا ما حدث أدوية لكل من كانوا يتابعون إقامة المتحف في السنين التي قمت فيها بتأسيسه، ثم نبيل فرج تركته في هدوء قبل الافتتاح.